مذبوحة على الطريقة العربية!

TT

ما حضرت نقاشا بين عربيين إلا كانت اللغة اليقينية ثالثتهما، فكل يتحدث بيقين الذي يمتلك الحقيقة، ولما كانت مجالس العقلاء تتطلب متحدثين ومستمعين، فقد عودت نفسي الانحياز إلى صفوف المستمعين، إذ لا أمل لديّ في أن تسفر تلك النقاشات عن تشكيل قناعات مشتركة، وقد سيّج كل واحد نفسه لاتقاء فكر الآخر بمصدّات، وأسلاك شائكة على النحو الذي توشك أن ترسم فيه الحدود بين الدول العربية.

في أدبيات الحديث باللغة الإنجليزية عبارات دارجة كثيرة الاستخدام مثل: «أنا أظن»، و«من المحتمل»، و«لربما»، لإشعار المتلقي بأن الرأي المطروح يتسم بالمرونة، وقابل للنقاش، وليس يقينيا، ولهذه العبارات ما يقابلها في لغتنا وأكثر، لكنها غدت شبه مهجورة من ندرة الاستعمال، فلا أحد منا يبدأ نقاشه أو طرح أفكاره بإبداء ما يوحي بأن ما يطرحه يحتمل الخطأ، وبالتالي فهو جاهز للاصطدام مع كل من يخالفه الإيغال في مثل هذه اليقينية، ومن الإنصاف القول: إن جلنا على نفس المستوى من الجاهزية لذبح جميع حواراتنا وفق هذه الطريقة العربية.

وقد نجد في الغرب قلة تنحو هذا المنحى اليقيني من أمثال فوكوياما، ومقولته بنهاية التاريخ، لكن هؤلاء يمتلكون الشجاعة حينما تتبين لهم الأمور، فيعتذرون، ويعلنون خطأ رأيهم كما فعل فوكوياما نفسه، لكن من يفعل مثل هذا في عالمنا العربي؟! فأنا لا أتذكر أن أحدا منا قد اعتذر عن أفكار سبق طرحها، وتبين عدم صوابها، جميعنا نمضي على نفس القضبان التي شكلنا بها قناعاتنا قديما، ولم نزل نصر على أنها أقصر طريق بين نقطتين، ولتذهب نظرية الخط المستقيم إلى الجحيم.

بالأمس كنت أقرأ لقاء أجري مع مفكر عربي، يعد أحد عتاولة الفكر الماركسي، ولم أفاجأ بأن لا شيء قد تغيّر في فكر الرجل رغم أن العالم كله قد تغيّر، ولولا التاريخ في أعلى الحوار لظننته لقاء مختارا من صحافة عقد الخمسينات من القرن الماضي، نفس اللغة، ونفس الخطاب، ونفس الحلم الذي لم يتحول إلى كابوس بعد، وعلى نفس الحال قد تجد الآخرين من الإخوان، والقوميين، والبعثيين، وغيرهم.

فإذا كان الفكر ـ كما يقال ـ عملية مستمرة تؤثر وتتأثر بما ومن حولها، فما بال الغالبية منا تصر على العيش في جزر أفكارها المعزولة، قاطعة كل خطوط الاتصال والتواصل مع الواقع ومتغيرات الزمن؟!

[email protected]