قبل أن ينفلت الشرق الأوسط؟

TT

فشل إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما في التعاطي مع قضايا الشرق الأوسط إلى الآن، لا يكمن في تعاطيها مع إيران أو فلسطين أو أفغانستان كملفات منفصلة، ولا في تلك الحرب الأهلية القائمة في أركان هذه الإدارة حول كيفية التعامل مع هذه الملفات الثلاثة. المشكلة تكمن في فشل الإدارة الأميركية في طرح إطار شامل فيه رؤية ((sophisticated للأمن الإقليمي.

وهنا أقترح على الأميركيين فهم أمن المنطقة بأكملها من خلال ثلاث مناطق صغيرة هي غزة وصعدة وبيشاور، ثلاث بؤر ملتهبة على حدود ثلاث دول محورية في منطقة الشرق الأوسط الكبير أو ما يسمى بالمنطقة الوسطى الأميركية بقيادة الجنرال ديفيد باتريوس.

غزة تهديد لاستقرار أكبر دولة عربية في المنطقة وهي مصر، وصعدة التي يسيطر عليها الحوثيون في اليمن هي تهديد لاستقرار المملكة العربية السعودية، وبيشاور وما وراءها تهديد للدولة النووية الوحيدة في العالم الإسلامي وهي باكستان. إن أي خلل في استقرار هذه الدول الإقليمية الكبرى الثلاث هو تهديد للأمن الإقليمي برمته، وقد «يجيب عالي البيت على واطيه» كما يقول المثل الشعبي.

الإدارة الأميركية الآن غارقة في موضوع أفغانستان وفي تلك المعركة البيروقراطية بين السيناتور جون كيري المرشح السابق للرئاسة وبين المبعوث الأميركي إلى أفغانستان السفير ريتشارد هولبروك، كما تبدو هذه الإدارة مغرمة بملف إيران والذي تبدو فيه ضعيفة للغاية. ولكن أفغانستان بمفردها أو إيران بمفردها أو فلسطين بمفردها، كلها ملفات لن تفيد في التوصل إلى الحل إلا إذا جمعت هذه الصراعات ضمن إطار إقليمي أوسع فيما يخص المنطقة من بيشاور إلى المغرب. إذا ما اضطرب الأمن في أي من الدول الإقليمية المحورية الثلاث التي أتحدث عنها هنا (مصر والسعودية وباكستان) أو في اثنتين منها أو ثلاثتها، فمعنى ذلك أن الشرق الأوسط برمته قد يذهب إلى الجحيم.

ولكن كيف يمكن أن تحمى هذه الدول المحورية من مصير دول الجوار التي تحيط بها، حيث منها الفاشلة وشبه الفاشلة أو التي هي على حافة الفشل؟ لن يحمى، بكل تأكيد، أمن هذه الدول بتقسيم المنطقة إلى ملفات بيروقراطية مختلفة كما هو الحال في تعاطي الإدارتين الأميركية والبريطانية مع ملف منطقة الشرق الأوسط. من المهم بداية، الفهم بأن إيران اليوم قبل أن تكون قوه نووية هي مصدر تهديد للأمن الإقليمي، فإيران لديها أكثر من جبهة مفتوحة للقتال: جبهة ضد العدو البعيد إسرائيل من خلال لبنان وحالة «حزب الله»، وجبهة ثانية ضد العدو القريب (السعودية) من خلال الحوثيين في اليمن، وجبهة أخرى ضد مصر من خلال الإمارة الإسلامية في غزة.

هذه اللعبة التي تفتح جبهات متعددة ضد العدو القريب والعدو البعيد هي مصدر لعدم الاستقرار في المنطقة على الأقل منذ ستينيات القرن الماضي، فجمال عبد الناصر أيضا كانت له حرب قريبة في اليمن وأخرى بعيدة مع إسرائيل.

لا شك أن إسرائيل عامل رئيسي في عدم الاستقرار في المنطقة، ويجب أن يؤخذ هذا في الاعتبار عند الحديث عن بؤرة غزة والتماس الإسرائيلي الإيراني الذي يضاعف حجم المشكلة. وكما فشلت مصر ناصر في مشاريعها في المنطقة سوف تفشل إيران نجاد، ولكن المشكلة أن بقايا المشاريع الفاشلة هي التي تؤدي إلى الخراب في أي إقليم، ولنتذكر كيف أن فشل المشروع الروسي في أفغانستان هو الذي أهدى إلى العالم هديته الكبرى المعروفة بأسامة بن لادن وكذلك طالبان، وأهدى إلى العالم بالتبعية أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001.

وربما المشروع الأميركي ذاته الذي ترتسم عليه ملامح الفشل في العراق قد يترك للمنطقة إرثا من العنف لا نعلم مداه. وربما أيضا، كما حدث في أفغانستان، ترتد كرة النار الملتهبة التي قذفت في حضن العراق إلى الولايات المتحدة وأوروبا. لذا، لا بد وأن يدار الملف العراقي بحساسية شديدة، ولا يترك العراق كما ترك الروس أفغانستان، حيث جاءوا إليها بحجة تغيير النظام وتنصيب نجيب الله رئيسا، والبقية كلنا نعرفها. إن منطقة الشرق الأوسط اليوم تتقاسمها ثلاثة مشروعات متصارعة ومتكاملة في الوقت ذاته. المشروع الأميركي الذي يضغط على الأنظمة في الدول المحورية الثلاث من الخارج، والمشروع الإيراني الذي يستهدف استقرارها من الداخل عن طريق جماعات تقوض الأنظمة مثل «حماس» و«حزب الله» والحوثيين في اليمن. أما المشروع الثالث فهو مشروع بن لادن وجماعته ومن لف لفهم ممن يريدون الذهاب بالمنطقة إلى القرون الوسطى، مشروع ظلامي تحتضنه ثقافة جديدة بدأت تسود في المنطقة، ويتكامل مع المشروع الإيراني الذي يبدأ بالعدو القريب المتمثل في استهداف استقرار الدول المحورية. إن ما يدعو إلى القلق والاستغراب معا، هو أن تصريحات الإدارة الأميركية فيما يخص الحوثيين في اليمن والموقف في سوات في باكستان، كلها تصريحات تصب في اتجاه تقوية الجماعات المتطرفة على حساب الدول الداعمة للاستقرار. فمثلا الانتقاد الأميركي لتصرف المملكة العربية السعودية في دفاعها عن حدودها عندما تجرأ عليها الحوثيون، هو نقطة إضافية في سجل التصريحات التي تصب في مصلحة جماعات متشددة تدعي الولايات المتحدة أنها ضدها. وكذلك التصريحات المحبطة من قبل وزيرة الخارجية الأميركية فيما يخص المستوطنات الإسرائيلية، حيث تقول في إسرائيل شيئا وتقول نقيضه في القاهرة، فلم نعد ندري ما هي سياسة الولايات المتحدة حول هذا الشأن، هل هو ما قيل في إسرائيل أم ما قيل في القاهرة؟ الشيء ذاته ينطبق على ما قاله المبعوث الأميركي إلى باكستان ريتشارد هولبروك، للمصريين فيما يخص التعاون المشترك في محاربة قوى التطرف. مما يجعل القوى الإقليمية الداعمة للاستقرار في المنطقة تشعر بأن الإدارة الأميركية تعاملها «بجليطة»، رغم أن الإدارة الأميركية تحتاج إلى خبرة وفهم كوادر هذه القوى الإقليمية، فهم أدرى وأعلم بشؤون منطقتهم أكثر بكثير مما يفهمه هولبروك أو ميتشل أو فريقاهما.

إن موقف الإدارة الأميركية الحالية تجاه إيران يجعل المنطقة قلقة جدا ومتشككة فيما يخص رغبة الأميركيين الحقيقية في استقرار المنطقة، إذ إن الحديث الأميركي عن استقرار الشرق الأوسط هو حديث غير مترابط، وينقصه الكثير من الفهم لمحركات الاستقرار في المنطقة، وكذلك الفهم لمحركات الاضطرابات وعدم الاستقرار. ويبدو وكأنه لكي تتجنب جماعة الإدارة الأميركية الجهد الفكري الشاق في تصور لإطار شامل للأمن الإقليمي من باكستان إلى المغرب، فإنها تحاول التعامل مع الموقف بالقطعة (retail): فريق يتعامل مع العراق، وآخر مع إيران، وثالث مع فلسطين، بل إن بعض «دراويش» هذه الإدارة قد امتهنوا اليوم موضوع السنة والشيعة، إلى آخر هذه التقليعات الساذجة في التعامل مع أمن المنطقة المركزية أو ما أطلقت عليه إدارة جورج بوش بـ«الشرق الأوسط الكبير».. وليس مستبعدا، في ظل هذا التخبط الأميركي، ألا يغادر الرئيس أوباما البيت الأبيض قيل أن يصبح الشرق الأوسط الكبير صغيرا، بل وصغيرا جدا. كنا نتمنى على الرئيس باراك أوباما أن يكون على قدر ما توسمناه فيه من ذكاء، فاستراتيجية إدارته اليوم تجاه ملفات الشرق الأوسط تبدو تائهة وساذجة. الاستراتيجية تعني بالتعريف النظر للصورة الكلية لا لمقاطع متفرقة. بالطبع إن أولى أولوياتنا كعرب هي القضية الفلسطينية التي نريد من الأميركيين أن يمنحوها الأولوية، ولكن حل القضية الفلسطينية لن يتم إلا في إطار منظومة جديدة للأمن الإقليمي تكون فيها دولة فلسطين الجديدة وحدة إضافية من وحدات الاستقرار في المنطقة لا العكس، فدولة فلسطينية تشبه دولة الصومال أو السودان أو حتى اليمن لا أعتقد بأن أحدا يتمنى وجودها.

المخرج من هذا التخبط لإدارة أوباما في منطقة الشرق الأوسط، هو في البدء ببناء استراتيجية جديدة دعائمها الأساسية تحيط بثلاث مناطق ملتهبة على تخوم أو داخل دول محورية إقليمية: غزة وصعدة وبيشاور. بالتركيز على هذه المناطق الملتهبة الثلاث نكون قد ضمنا سلامة باكستان ومصر والسعودية، لأن انفراط عقد هذه الدول المحورية يعني أن تودع إدارة أوباما الشرق الأوسط بكل ما يعني ذلك من خسارة جسيمة للأمن القومي الأميركي ولأمن الشرق الأوسط أيضا.