حكومة «البطل» تغلب حكومة «المجتمع المدني»

TT

ما حصل في الساعات الاخيرة قبل التصويت على الثقة لحكومة الرئيس محمد خاتمي من جانب البرلمان كشف أموراً في غاية الأهمية ينبغي التوقف عندها طويلاً لمن يريد قراءة الخط البياني لمستقبل حركة الاصلاحات الخاتمية من جهة، بل ايضاً لمن اراد الدقة في قراءة مستقبل العمل السياسي في ايران.

فعلى الرغم من تأكيد الرئيس محمد خاتمي طوال السنوات الأربع الماضية وهي عمر ولايته الأولى على ان زمن الابطال الفرديين قد ولى وان الشعب هو البطل الحقيقي، ورغم توقه وشوقه وحماسه المنقطع النظير والذي لم يستطع اخفاءه برغم المواجهات والازمات المتلاحقة للمجتمع المدني والحياة الحزبية والنظام البرلماني وتنظيره الواعي والهادف لموضوع الديمقراطية الملهمة لانظمة العالم السياسية المعاصرة، في اطار توليفة «الجمهورية الاسلامية» في محاولة لارساء نظام ديمقراطية اسلامية راشدة تقوم على العقل الجمعي للحزب والجماعة الحزبية المنظمة وما الى ذلك من مفاهيم التعدديات الدينية والسياسية المعاصرة، فقد اضطر شخصياً للنزول بكل قواه وبكل ما يملك من هيمنة كارزماتية وروحية ودينية وهكذا كبار مساعديه وحوارييه وانصاره واصدقائه المقربين لانقاذ تشكيلته الحكومية المقترحة على «برلمان الاصلاحات» من السقوط بعدما هدد مناصريه الحزبيين وحلفاءه السياسيين بعدم تمرير ما لا يقل عن خمسة وزراء من فيلتر المجلس النيابي، واحتمال سقوط وزيرين آخرين من حكومته بسبب معارضة اليمين المحافظ لهما واحتمال وقوعهما في دائرة تقاطع المصالح الحزبية مع حزب جبهة المشاركة اليساري الذي كان يستعد لعدم تمريرهما ايضاً لدوافع مختلفة عن دوافع اليمين المحافظ.

كل تلك السيناريوهات سقطت في اللحظة الاخيرة على انغام سمفونية «المجتمع الأهلي» المحيط بشخص الرئيس والذي لعب دور البديل لمؤسسات المجتمع المدني الذي ظل الرئيس محمد خاتمي يراهن عليه وينظر له طوال السنوات الأربع الماضية، وهكذا بدت الصورة قبل ساعات من التصويت على الحكومة وكأن شخص الرئيس محمد خاتمي لا يزال هو الاهم والاقوى وهو البطل في المشهد السياسي الايراني العام.

وهو الاهم والاقوى في تكتل الاصلاح والتغيير العريض الذي يمثل تطلعات قطاع واسع من الرأي العام.

وهو الاهم حتى في لعبة التوازنات السياسية البارزة على المسرح العلوي لمطبخ صناعة القرار الحزبي والمؤسساتي.

فالمعروف ان تشكيل الحكومة المقترحة على البرلمان خلا تماماً من الوجوه «النارية» التي تمنتها جبهة المشاركة الحليفة للرئيس، كما انها لم تلب سوى الحد الادنى من مطالبات تكتل الاصلاح بشكل عام، ومن جهة اخرى ورغم احتوائها أو تضمنها لوجوه تكنوقراطية ومعتدلة، مستعدة لمغازلة اليمين المحافظ أو قادرة على نزع فتيل التوتر السياسي معه، فإنها احتوت على وجوه قد تغضب الجناح المتطرف من اليمين المحافظ على المدى البعيد.

باختصار شديد حكومة «غير سياسية» اختارها الرئيس محمد خاتمي بنفسه، لم تستطع الاحزاب والتشكيلات الموالية ولا المناوئة فرض رموزها الاساسية عليه. فكانت مفاجئة للجميع، ومع ذلك مرت الحكومة بكامل اعضائها لا بفضل القناعات الحزبية للبرلمانيين، الموالين منهم والمناوئين لبرنامج الاصلاحات، بل بفضل تضافر عوامل البعد الشخصي للرئيس وسائر عوامل «المجتمع الاهلي» الذي لا يزال اقوى من «المجتمع المدني» المنشود! ونذكر هنا بعض النماذج على ما حصل على سبيل المثال لا الحصر فقط:

1 ـ لقد نفذ عدد معين من الوزراء من السقوط بسبب مناشدة شخصية من الرئيس حتى لا تتعطل تشكيلة الحكومة الكلية ورؤيته البعيدة المدى لمسيرة الاصلاحات امثال وزير الدفاع والخارجية والثقافة و... بل ان الاصوات التي حصلوا عليها اتت مريحة الى حد ما بفضل عمل وتأثير ونفوذ مؤسسات «المجتمع الأهلي».

2 ـ لقد نفذ وزيرا الاسكان والتعاون عبد العلي زاده وصوفي، رغم اصرار حزب جبهة المشاركة على رفضهما بفضل تحالف «قوميات» الكيلك والاتراك لصالحهما على حساب التوجهات الحزبية.

3 ـ لقد تكرس وزيرا التربية والعلوم والتكنولوجيا حجتي ومعين رغم محاولات اليمين لاسقاطهما الاول بسبب كونه مقلداً لاحد المراجع الدينية المنشقة عن النظام والثاني بسبب ارتباطه باحداث الطلبة الشهيرة، وذلك بفضل قوة اصفهان وما تمثله هذه المدينة التاريخية من ثقل سياسي في كافة التشكيلات الحكومية على الدوام.

4 ـ لقد نجا وزير النفط (زنكنه) من السقوط بعد ان ترنح لساعات تحت ضربات علي اكبر محتشمي رئيس تكتل جبهة الثاني من خرداد والذي استطاع ان يجلب تعاطف بعض النواب العرب من خوزستان وآخرين بفضل قوة نفوذه الشخصي لولا دخول الرئيس محمد خاتمي مرة اخرى وايضاً رئيس البرلمان مهدي كروبي على خط «الصراع الكاريزمي» وهجومهما على محتشمي وتبرئة الوزير بل واخراجه مثل «الشعرة من العجين» كما يقول المثل المعروف، تبقى اخيراً ضرورة التذكير بأن الرئيس محمد خاتمي سواء اثناء مشاوراته ومداخلاته المحمومة من اجل كسب ثقة البرلمانيين أو في دفاعاته الخطابية الرسمية عن الحكومة، قد تمكن في الواقع من خلال تركيزه على حساسية المرحلة وضرورة الرؤية اليها بالاجمال والى الحكومة كوحدة عمل تملك ملفات محددة وبرنامج عمل محدداً متمسكاً باهداف الاصلاحات العامة رغم احتمال ضعف المواصفات الشخصية لبعض الوزراء، انما تمكن مرة اخرى من تحريك وتعبئة العواطف الانسانية والشخصية لدى النواب اكثر مما استطاع شد عقولهم والبابهم، ومرة اخرى انما يعود الفضل في ذلك لكاريزما الرئيس والملهم و«البطل» الحقيقي رغم قوة افكار الرأي العام وتقدم الوعي لديه.

وهذا بالمناسبة انما يزيد في صعوبة عمل الرئيس وافراد حكومته ويلقي بمسؤولية اثقل كثيراً عليهم باضعاف عن حجمها في العهود السابقة. ويجعلهم وجهاً لوجه امام الرأي العام، خاصة الرئيس محمد خاتمي، فالوزراء كانوا يتلقون المواساة على ثقل المهمة وليس التبريك بالفوز ولو على سبيل المبالغة. كما تأكد لخاتمي من جديد بأن اشواطاً طويلة تفصله عن طموحاته بالمجتمع المدني المنشود، ونيلها بحاجة الى تمرينات طويلة وصعبة على الديمقراطية وحكم الشعب الديني.