الجزائر: الأمازيغية ثانية

TT

عادت قضية الأمازيغية لتتصدر جل التحليلات التي تتناول الشأن الجزائري. وكنت عالجت هذا الأمر، أكثر من مرة، وأجد نفسي اليوم مضطراً للتذكير ببعض أبعاد هذه القضية، التي أصبحت قميص عثمان الجديد، بل وهناك من يخطط لجعلها حصان طروادة الجديد.

وقصص ذات دلالة.

فقد قام الرئيس الشاذلي بن جديد في مارس 1980 بأول زيارة رسمية له خارج البلاد، وكانت للوطن العربي، ولم يكن ذلك مصادفة بل كان اختياراً سياسياً واضحاً، لعل المثقفين في الوطن العربي لم يتبينوا دلالاته وإيماءاته كما تبينتها المصالح الاستعمارية آنذاك.

وفي الشهر التالي مباشرة اندلعت في منطقة القبائل الكبرى أحداث كانت خلفيتها مطالبات بدت ثقافية، تركزت على المطالبة بإعادة الاعتبار إلى «اللغة» البربرية، وتمخض عنها في ما بعد شعارات استفزازية كان من بينها شعار «اعيدوا إلينا جزائرنا!»، وكان من بين ما قيل لنا، لمجرد اننا نتمسك بالانتماء الحضاري العربي الإسلامي: «عودوا إلى الجزيرة العربية واتركوا لنا بلادنا». وتعود إلى الذهن أحداث اكتوبر 1988 والتي وقعت بعد نحو أسبوع من القرار الذي اتخذه الرئيس الجزائري بإغلاق مدرسة ديكارت الفرنسية، وبموقفه الحازم في هذا الشأن مع وزير الخارجية الفرنسي الذي انهى معه المقابلة بما يشبه الطرد.

وتنطلق أحداث 2001 في نفس الأسبوع الذي أعلن فيه رئيس الجمهورية عن مشروع الإنعاش الاقتصادي (الذي خصص له نحو خمسة مليارات دولار، سيوجه نصيب منها اليوم لإصلاح ما خرب ودمر) وبعد تصريحاته عن اعتزامه مواصلة العمل لتحقيق المصالحة الوطنية، والشائعات التي ترددت عن عزمه إطلاق سراح قيادات إسلامية.

ولفهم قضية الأمازيغية (والتسمية عربية، فرضتها رئاسة الجمهورية إعلامياً في 1980 لتحل محل تعبير البربرية) أذكر بأن سكان شمال افريقيا كانوا، قبل الفتح الإسلامي، نحو عشرين مليوناً، حملوا اسم البربر، وهي صفة قدحية اطلقها اليونان ثم الرومان على من لا يتحدثون لغتهم، والاسم الصحيح للسكان هو: اللوبيون، الذين يرجع بعض المؤرخين أصولهم إلى العرب البائدة، مستدلين على ذلك بتشابه كثير من كلماتها أو جذور لهجاتها (وهي نحو خمس لهجات في الجزائر) مع العربية.

وعندما دخل الإسلام إلى المنطقة في القرن السابع لم يكن عدد الفاتحين العرب يزيد عن عدة آلاف، أضيف لهم في ما بعد نحو مائتي ألف من الهلاليين، وهو ما يعني بأن النسبة العددية للعرب الوافدين كانت من الضآلة بحيث ذابت في معظمها في الأغلبية البربرية التي عربها الإسلام، مما يؤكد وحدة الأصل العرقي، فالإسلام لم يعرب بلاد فارس وسكان شبه الجزيرة الهندية، مما يجعلنا نفرق بين اللغة والانتماء العرقي، وهو ما يتجاهله البعض، ويجهله البعض الآخر.

فالواقع هو أن استعمال البربرية أو العربية لا علاقة له بالضرورة بالانتماء العرقي، لأنه نتيجة منطقية لتحرك السكان من مكان إلى آخر. فقد توغل بعض العرب في أعماق البلاد لنشر الإسلام، وفر البعض من اضطهاد الحكام، ثم انقطعت بهؤلاء وأولئك الأسباب، أو ارتبطوا بالمصاهرة مع السكان فرأوا الاستقرار في المناطق التي كانت تستعمل اللهجات البربرية. وهكذا اكتسب الأبناء والأحفاد وأحفادُ الأحفاد لهجات المناطق التي استقروا بها.

في الوقت نفسه نجد أن حجماً هائلاً ممن ارتبطوا بلغة القرآن فقدوا تدريجياً لهجاتهم القديمة، لمجرد أنها لم تكن أبداً لغة علم أو إدارة أو حضارة، فقد كانت لغات شفوية، ومن هؤلاء من لم يرتبطوا بلغة الإسلام فحسب، بل تألقوا في علومها، ومن بينهم والد النحاة ابن معطي الزواوي، وهو من القبائل، بدون أن ننسى قادة الإسلام وفي طليعتهم طارق بن زياد، وهو من هضاب الجزائر. ولجأت فرنسا بعد الغزو إلى سياسة «فرق تسد» المعروفة، وأصبحت تخص بعض المناطق الناطقة بالبربرية في الوسط الجزائري باهتمام خاص، أخذ صوراً متعددة، اقتصادية وثقافية.

وزرعت مقولة أن «العرب غزاة، والعربية لغة غازية، وأن البربر جرمان الأصل»، وبدأ العمل الانتقائي لتمسيح بعض التجمعات، وإرسال أبناء للأعيان قسراً للعيش في فرنسا، انطلاقاً من أن «العرب لن يقبلوا فرنسا إلا إذا أصبحوا فرنسيين، ولن يصبحوا فرنسيين إلا إذا أصبحوا مسيحيين، والأقرب للمسيحية هو من يرفض العربية».

لكن رجال العلم والفضل والتقى في منطقة القبائل تصدوا لذلك الاستعمار، واتفقت كلمة الجميع على الجهاد، ولم يكن هناك فرق في ذلك بين الأمير عبد القادر في الغرب الجزائري، وأحمد باي في الشرق الجزائري، ولالا (السيدة) فاطمة نسومر في بلاد القبائل، وبوعمامة في جنوب الهضاب العليا.

وسنجد في ما بعد أن الوطنيين حققوا التكامل بين الاعتزاز بالعمق التاريخي الأمازيغي، والانتماء الحضاري العربي الإسلامي، وربما كان من أبرز الأمثلة تكوين جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، والتي كانت جل قياداتها تجسيداً للانتماء التاريخي ـ الحضاري، وفي مقدمتهم عبد الحميد بن باديس، والبشير الإبراهيمي والعربي التبسي ومحمد الميلي وغيرهم، ثم جيل الشباب، عبد الرحمن شيبان وأحمد حمّاني وغيرهما، وكان ذلك عندما كان المسجد يقوم بدوره الحقيقي. لكن الاستعمار كانت له نتائجه وتداعياته.

فنظراً للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية السيئة في البلاد هاجر العديد من الجزائريين إلى فرنسا طلباً للرزق، وكانت نسبتهم هناك تزيد مع زيادة حجم البؤس والشقاء في المناطق التي قدموا منها، ومن هناك كانت هناك أغلبية مهاجرة من منطقة القبائل الكبرى، التي يسميها المؤرخ محمد حربي: ملاذ البؤس Sanctuaire de la pauvrete.

ومقارنة بالقمع الرهيب والتضييق الخانق على الحريات في الجزائر، استفاد الجزائريون من ظروف الحرية النسبية في فرنسا، بحكم وضعيتها السياسية، وهكذا نبتت الحركة الوطنية المعاصرة في إطار النشاط العمالي الذي يرعاه الحزب الشيوعي الفرنسي، وولد حزب الشعب الجزائري بفرنسا على يد مصالي الحاج.

ونظراً للنسبة العددية فلم يكن بعض الذين ينتمون إلى منطقة القبائل الكبرى راضين عن موازين القوى داخل التنظيم القيادي، وحدثت محاولة لتكوين ما يُسمى «حزب الشعب القبائلي»، وقف ضدها معظم المناضلين، ومن بينهم نسبة كبيرة تنتمي إلى منطقة القبائل نفسها، أدركوا، بوطنيتهم، خطورة تلك المحاولة على كيان الجزائر المستقبلي. ورغم فشل المحاولة فإنها تركت بصماتها على مسيرة الحركة وفي وجدان بعض أبنائها.

وخُلق عند البعض شعور زائف بالاضطهاد، زاد من حدته تحويل اللهجة، بجهود مبعوثي الكنيسة الاستعمارية، إلى غيتو فكري عدواني التعامل. وحدث فرز بين الأغلبية الوطنية من أبناء منطقة القبائل، الذين يرجع لهم الفضل الكبير في حماية الإسلام والعربية، وبين حفنة من أبنائها، عاشوا في احضان الكنيسة الاستعمارية، ومن بينهم من لا ينتمي أصلاً للمنطقة، وربما لأفريقيا كلها، زرعت فيهم بذور الحقد تجاه كل من هو عربي اللسان إسلامي العقيدة، وفي ما بعد، كل من هو وطني التوجهات أو قومي الفكر.

وجاءت ظروف التحولات السياسية التي تميزت بوجود شبه فراغ على قمة السلطة لتفتح الباب على مصراعيه أمام أخطر الأطماع.

ورغم أن جزائر الاستقلال حققت تكافؤ الفرص أمام جميع الجزائريين، بما في ذلك إمكانية استعمال اللهجات المحلية. (وهناك قناة إذاعية مخصصة لها، ونشرات إخبارية تقدم بلهجتين منها) بدون المساس بواحدية اللغة وهي العربية، وبدون أن يسمح لإحدى اللهجات بوضعية السيادة (وهي من خلفيات الاحتجاجات التي ترفع شعار الأمازيغية، ولكنها تعني لهجة بعينها، ولهذا ترفض الاستفتاء الشعبي).ولم يكن ذلك التسامح كافياً لإرضاء المتعصبين، وجلهم من تكوين فرنسي أعمى البصيرة، يتميزون بجهلهم الفاضح، لا للثقافة العربية فحسب، وإنما للتاريخ الجزائري نفسه، حيث يعتمدون على المراجع الاستعمارية، وأصبحت القضية أساساً عداءً للعروبة وللإسلام، وولاء للفكر التغريبي وصل إلى حد الاستلاب. وتواصل العمل على تعميق الشروخ الفكرية في الأمة، بهدف تحويلها إلى تناقضات لغوية عرقية، كما حدث في أفغانستان، أو إلى شروخ شعبية جغرافية تقود إلى مصير يوغوسلافيا، والمحصلة النهائية هي سيادة الفرنسية فكراً وسياسة واقتصاداً، وربما تمركزاً جغرافياً يستند إلى حقوق التدخل «الإنساني» التي أعلن عنها منذ سنوات، بعد ان يمهد لها باضطرابات تركز عليها كل الأضواء الإعلامية.

وستجد أن هناك شبه تطابق بشري بين النزعات البربرية المتعصبة والاتجاهات اليسارية المتطرفة والفرانكوفيليين المعادين للانتماء العربي الإسلامي، وسنجد أن حجماً مهماً من رؤوس الأموال المؤثرة على حركة المجتمع يرتبط بنفس التكتلات، التي تحظى غالباً بدعم مؤسسات فرنسية، بما جعل من فرنسا، مصالح احتكارية وأحزاباً حاقدة وسياسيين باحثين عن الشهرة، عمقاً استراتيجياً لكل المؤامرات التي تستهدف تخريب الجزائر المستقلة، واسترجاع الجزائر الفرنسية بأسلوب عصري جديد.

وللتفاصيل عودة.