غنى لكنه لم يحرقها

TT

في مسرحية «الشخص» للأخوين رحباني تسأل بائعة البندورة (فيروز) الحاكم، لماذا يظل صامتا، فيقول لها، ما خلاصته: «أنا دائما أحكي عندما أكون لوحدي. لكنني أتحاشى أن أتحدث أمام الناس، لأن كل واحد يفسر كلامي كما يريد». كم من الأساطير والخرافات حفر في عقول الناس وذاكرة التاريخ، لأن كل إنسان فسرها على هواه. منذ سنوات طويلة وأنا أقرأ عن «حريق القاهرة» الذي سبق انهيار حكم فاروق. وإلى الآن لم أستطع أن أعرف، على يقين أو شيء من اليقين، من تسبب في الحريق فعلا. ولماذا. وكم هي المساحات التي أتلفها. وكيف امتدت النار.

عندما وصلنا إلى لندن أواخر السبعينات كانت هناك تحذيرات وتعليمات في كل مكان في حال فاض نهر التيمس وكنا نضحك، نحن القادمون من بلد بلا قوانين وبلا مواطنين ونسخر من سخف البريطانيين. فكيف يمكن للتيمس أن يفيض، وإذا فاض فكيف يمكن أن يصل إلى كوينز غيت. ولم يخطر لنا مرة المثل الشعبي القائل إن الذي لدغته الأفعى يخاف من الحبل.

لكن الإنكليز كان التيمس قد فاض عليهم غير مرة. ولندن كانت قد أحرقت أكثر من القاهرة. والعاقل لا يلدغ من جحر مرتين. والإنكليز متعالون وخبثاء وبلا عواطف، لكنهم عقلاء وواقعيون وعمليون وأهل علم. ويعرفون أن الطبيعة إذا جنت لا تمزح ولا تقاوم والمنطق يفرض أن نتجنب غضبها لا أن نغفل عنه ولا أن نركن إليه.

لم أحاول مرة أن أطرح سؤالا واحدا حول حريق روما. فكم سمعت وقرأت وشاهدت من أفلام تصور الطاغية نيرون وهو يعزف الكمان فيما روما تحترق تحته. وربما كان ذلك صحيحا في الخرافات والأفلام. لكن المؤرخ الروماني تاسيتوس الذي عاصر الحريق، يروي أن نيرون كان فاسقا وفاجرا. لكن لا شيء يؤكد أنه أشعل الحريق الذي بدأ في مخزن للمواد السريعة الاحتراق. لقد دب الرعب في روما فدبت الفوضى وطفق الناس يهربون إلى الحقول لا يلوون على شيء، تاركين خلفهم متاعهم وأحيانا أحبابهم. وفي الفوضى نشطت العصابات من أجل السرقة والنهب. وما فعله نيرون هو أنه عاد إلى روما على عجل وفتح المآوي للفازعين ووفر الطعام للجائعين، لكن الإشاعات سرت تقول إنه ذهب إلى المسرح يعزف ويغني نشيد «تدمير طروادة».

من أصل أربع عشرة مقاطعة تتألف منها روما لم يبق سليما سوى أربع. وسرت إشاعات تقول إن نيرون أحرق روما لكي يؤسس مدينة جديدة يطلق عليها اسمه. هذا ما يرويه لنا تاسيتوس، «سي ان ان» تلك الأيام. لكن الأساطير والإشاعات لا تزال تلاحق نيرون إلى اليوم. وقد زرع صوته في ذاكرتي الممثل الرائع بيتر استينوف، الذي زرع فيها أيضا صورا كثيرة، وطالما أعجبت على مر السنين بذلك القدير الذي لم تستطع هوليوود أن تعثر على بديل له. وربما كان حقا أقرب الناس إلى تصوير شخصية الماجن الفاسق نيرون. لكن هذا لا يعني إطلاقا أن نيرون أحرق روما حقا ووقف يغني على رمادها ويعزف الكمان. ما يعنيه أن الناس تجتذبها الإشاعة والأسطورة لأن الحقيقة لا تغريها ولا تشبعها.