هدايا برلين للعرب سجون وتعذيب

TT

لا تحتفظ ذاكرتنا بالكثير عن جدار برلين، الذي يحتفل بذكرى هدمه الأوروبيون احتفاء بالحرية ونهاية آخر جدار في تاريخهم المعاصر، ربما لسبب بسيط أن المنطقة العربية كلها جدران مشيدة، وفيها كثير من الشبه بألمانيا الشرقية المنهارة، وبالتالي لا يعني لنا الكثير ذكرى سقوط الجدار الفاصل في العاصمة التاريخية لألمانيا.

إنما الزاوية المنسية في موضوع ما قبل عهد هدم جدار برلين أن ألمانيا الشرقية كانت تعني شيئين، علاقات سياسية مع الدول العربية السائرة في فلك الاتحاد السوفييتي. والثاني، وهو الأهم، أن ألمانيا الشرقية دربت وجهزت أجهزة بوليس عربية وتنظيمات متطرفة في التجسس والسجون والتعذيب. كان ذلك حتى عام 89 وسقوط نظام برلين. فقد كان لجهاز ستاسي الأمني الألماني الشرقي أكثر من ربع مليون أمني يقومون بمراقبة السكان من خلال نصف مليون مخبر، واشتهرت ألمانيا الشرقية بأنها معهد تدريب الأنظمة العالمثالثية على المراقبة والتعذيب وإدارة الأنظمة الأمنية بشكل عام.

سقط الجدار وتوحدت ألمانيا وفي أول انتخابات سقط كل رموز تلك الحقبة وطهرت أوروبا الغربية من آخر قلاع الاستبداد إلا أن الخبرات الألمانية الموروثة انتقلت تمنح خدماتها في منطقتنا لسنوات لاحقة مع بقية أيتام دول أوروبا الشرقية التي فرطت أنظمتها كالسبحة بعد سقوط الاتحاد السوفييتي في عام 91.

لكن كان هناك جانب آخر لبعض عرب برلين الشرقية أنها كانت ملجأ كبيرا للعرب الذين وجدوا في القسم الشرقي من ألمانيا سياسة قريبة من السياسة العربية العامة، خارج الاتفاقات الخاصة. وقد سعى السوفييت لاستخدام الألمان الشرقيين في الدعاية الدولية والادعاء بأن نظامهم ناجح في مجالات الرياضة والفن والصناعة، وكذلك الجانب السياسي اليساري في فكره الإنساني المعادي للغرب المادي. والحقيقة أن جدار برلين رمزيا شق العالم العربي، حيث كان يعيش على جهة منه دول عربية في فلك برلين الغربية، ودول كانت على الشق الشرقي منه.

هدم الجدار ووحدت ألمانيا، وأوروبا إنما بقي جدار برلين العربي واقفا ليس بسبب الاتحاد السوفييتي الذي كنا نحب لومه على إخفاقات الدول العربية التي عاشت في فلكه، بل لأن بناء نظام للتعايش الجماعي وظيفة اجتماعية وسياسية صعبة. فالنزاعات العربية العربية أكثر منها من نزاعات العرب مع الآخرين، بما فيهم إسرائيل. وروح التعايش حتى لو كانت سياسة عليا فإنها تتطلب تفكيرا شعبيا قادرا على تحمل معاني العلاقات المشتركة التي هي أصعب من القطيعة عادة. سكان برلين الشرقية عمليا هم الذين هدموا الجدار بأيديهم، وليس بجهد من حكومة الرئيس الأميركي حينها رونالد ريغان الذي ينسب إليه الفضل، وهو صاحب الجملة الشهيرة 87، أي قبل عامين عندما وقف أمام الجدار، موجها الكلام للرئيس السوفييتي حينها، «أيها الرئيس غورباتشوف إن كنت تريد السلام والازدهار فاهدم هذا الجدار».

هُدم الجدار، وتوحدت ألمانيا، وتوسعت أوروبا لتضم الحمر مع الخضر، وصارت هناك تجربة ناجحة تستحق التأمل خاصة من جانبنا، من وراء الجدار العربي الطويل جدا.

[email protected]