من «بلغراد» إلى الكويت

TT

في اليوم السابع من شهر سبتمبر عام 1961م، كنت في مدينة «بلغراد»، أشارك وفد بلادي لاجتماعات المؤتمر الأول لدول عدم الانحياز، عندما تلقيت، من الديوان الملكي، أمرا بعودتي عاجلا للطائف، المقر الصيفي لجلالة الملك سعود بن عبد العزيز ـ يرحمه الله.

أثار هذا الأمر، في خاطري، حشدا من الظنون عن موجبات هذا الاستدعاء، سيما وأنا مكلف، أيضا، بمواصلة سفري إلى نيويورك للمشاركة في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة.

لم أكن سعيدا بهذا الاستدعاء.

كنت سفيرا في وزارة الخارجية، وأنا في مطالع الثلاثين من عمري، شديد الاعتداد بالنفس، رحب الأماني، واسع الطموحات. رأيت في عودتي، دون استكمال المهمة في الأمم المتحدة، إجهاضا لأمنية طالما سكنت أحلامي، حيث يجتمع ساسة العالم في جو من التألق الفكري والحراك السياسي الممتع المثير.

في الطائف، وجدت في انتظاري خبرا استجمعت له كل مداركي كي أستوعب الأهمية فيه.. لقد شرفني جلالة الملك سعود بن عبد العزيز باختياري سفيرا لجلالته في الكويت.. فكان لا بد من استدعائي على عجل، كي أسافر، أيضا، على عجل.

كانت الكويت قد أعلنت استقلالها في 19 يونيو 1961م، منهية بذلك معاهدة الحماية التي كانت تربطها ببريطانيا العظمى منذ عام 1899م. وكان لا بد من أن تسارع المملكة العربية السعودية إلى إقامة تمثيل دبلوماسي لها في الكويت، تعزيزا لاستقلال البلد الشقيق.

كما جرى التفاهم بين المراجع العليا في البلدين على أن يكون سفير المملكة العربية السعودية أول من يقدم أوراق اعتماده من السفراء كي تكون للمملكة العربية السعودية عمادة السلك الدبلوماسي في دولة الكويت.

لم تطل إقامتي في الطائف. وجدت أوراق اعتمادي، وختما جديدا للسفارة، وشفرة رمزية للبرقيات في انتظاري. اختار لي الشيخ عيد بن سالم رئيس الخاصة الملكية ـ يرحمه الله ـ سيفا جميلا بتوجيه من جلالة الملك سعود، فقد كان حمل السيف، في تلك الأعوام، جزءا من مراسم تقديم سفراء المملكة العربية السعودية لأوراق اعتمادهم.

سافرت وحدي على أن يجري تعيين موظفي السفارة لاحقا.

ما إن تواصلت رسائل التهنئة والاعتراف الدولي باستقلال الكويت حتى انفجرت أزمة سياسية أربكت أجواء الترحيب العربي بمولد دولة عربية جديدة. فقد أعلن الزعيم عبد الكريم قاسم رئيس جمهورية العراق في مؤتمر صحافي عقده في 26 يونيو 1961م، أي بعد أسبوع من إعلان استقلال الكويت، رفضه الاعتراف بهذا الاستقلال، مدعيا أن «الكويت، تاريخيا، جزء من العراق». واقترن ذلك الموقف الرافض لاستقلال الكويت بالتهديد والوعيد، وحشود عسكرية عراقية على الحدود بين البلدين.

وتراجع الاهتمام العربي عما كان يشغله من القضايا، وتحول الموقف العراقي من استقلال الكويت لقضية جديدة من قضايا الهم العربي تنذر بمخاطر كبيرة.

في مواجهة هذا الحدث المفاجئ الخطير، الذي يستدعي موقفا من مواقف الحسم لا يلوذ بالغموض، بعث الملك سعود بن عبد العزيز ملك المملكة العربية السعودية لسمو الشيخ عبد الله السالم أمير الكويت بالبرقية التالية:

«تناولت برقية سموكم بتاريخ 13/1/1381هـ الموافق 26/6/1961م، والتي أشرتم فيها إلى ما أدلى به الزعيم عبد الكريم قاسم. والحقيقة أنه موقف عجيب مؤسف. أما نحن فمعكم في السراء والضراء. وسوف نكون أوفياء فيما تعاهدنا عليه. ونحن على أتم استعداد لمواجهة كل خطر تتعرض له الكويت الشقيقة».

كما بعث جلالته ـ يرحمه الله ـ برقية إلى الزعيم عبد الكريم قاسم في 30 يونيو 1961م، جاء فيها «..وفضلا عن أن الكويت بلد عربي نكن له مشاعر المحبة والإخاء مثل البلاد العربية الأخرى، فإن في أعناقنا عهدا مقطوعا للكويت في أن نهرع لنجدته إذا تعرض لأي خطر».

كما أرسل جلالة الملك سعود، أيضا، برقية إلى الرئيس الراحل جمال عبد الناصر ـ يرحمه الله ـ يؤكد فيها على موقف المملكة العربية السعودية الداعم لاستقلال الكويت، وتلقى من الرئيس عبد الناصر البرقية التالية:

«لقد تلقيت باهتمام كبير برقية جلالتكم عن التطورات الأخيرة، بين حكومة الجمهورية العراقية، وحكومة الكويت.

ولعل جلالتكم قد اطلعتم على البيان الرسمي الذي صدر عن حكومة الجمهورية العربية المتحدة والذي حوى في مقدمته رأيي بأن العلاقات بين الشعوب العربية لا يمكن أن تحكمها غير المبادئ التي صنعها النضال الطويل للأمة العربية. وإني لأريد من جلالتكم أن تتأكدوا أن شعب الجمهورية العربية المتحدة يضع دائما كل طاقاته وإمكاناته في خدمة هذه المبادئ».

وبأمر من جلالة الملك سعود توجه إلى الكويت وفد عسكري سعودي برئاسة اللواء إبراهيم الطاسان، وعضوية العقيد الطيب محمد التونسي، والعقيد علي قباني، واجتمع الوفد مع سمو أمير الكويت لترتيب وصول القوات السعودية التي تواجدت على أرض الكويت في 29 يونيو 1961م.

وهرعت العواصم العربية نحو بغداد تبحث عن مخرج يوقف النذير قبل استفحاله. وأوكلت الجامعة العربية لأمينها العام السيد عبد الخالق حسونة مهمة الاحتواء العاجل لأعراض التوتر على الحدود بين العراق والكويت.

وفي موازاة هذا الموقف السياسي العسكري الداعم لدولة الكويت، قادت المملكة العربية السعودية حملة دبلوماسية لانضمام الكويت لجامعة الدول العربية، في وجه معارضة عراقية شرسة لهذا الانضمام. ولا أنسى يوم أن اتصل بي هاتفيا جلالة الملك سعود بن عبد العزيز عصر يوم الخميس 20 يوليو 1961م، وأنا مدير عام للمديرية العامة للإذاعة والصحافة والنشر (قبل تأسيس وزارة الإعلام)، وقال بلهجة المستبشر السعيد إن طاهر رضوان، مندوبنا في الجامعة العربية، قد اتصل بجلالته وأخبره بموافقة الجامعة العربية على انضمام الكويت إليها. وأمرني جلالته بأن أكتب تعليقا سياسيا للإذاعة والصحافة يليق بالحدث السعيد.

وكان لجلالته ما أراد.

ولم ينقطع يوما تساؤلي: ألم يكن في مقدور جلالته أن يوعز لرئيس ديوانه كي ينقل إلي رغبة ملك البلاد؟ إلا أن جلالة الملك سعود كان مبتهجا لهذا الحدث، وأراد أن يؤكد بنفسه على أهمية الحدث كي يجيء التعليق الإذاعي عليه لائقا به. اقترن قبول الكويت عضوا في الجامعة العربية بتشكيل قوة تابعة للجامعة العربية في 12 أغسطس 1961م من كل من السودان والأردن والجمهورية العربية المتحدة تضاف إلى القوة السعودية التي وصلت إلى الكويت مع بداية الأزمة. وطلبت الكويت من القوات البريطانية التي استعانت بها يوم انفجار الأزمة الانسحاب، وحلت محلها قوات الجامعة العربية.

تولى اللواء عبد الله العبد العزيز العيسى قيادة القوات العربية في الكويت، يعاونه ضابطان سعوديان من رتبة عقيد هما السيد مشهور الحارثي، والسيد كامل الدباغ ـ يرحمهم الله جميعا. وتولى المهمة من بعده الفريق عبد الله المطلق، الذي أصبح في ما بعد رئيسا لهيئة أركان الجيش السعودي.

وظل الزعيم عبد الكريم قاسم يجتر مزاعمه بتبعية الكويت للعراق والدول الأجنبية تبعث بسفرائها إلى الكويت، إلى أن أطاح به وأعدمه، في 9 فبراير 1963م، العقيد عبد السلام عارف، رفيقه في السلاح، وشريكه في الانقلاب على الأسرة المالكة الهاشمية في بغداد في 14 يوليو 1958م.

هناك، في اعتقادي، ما يدعو للوقوف عند هذا التاريخ، والحديث عنه والتأمل فيه. فهو حديث الجيلين من أبناء وطني يجهلان هذه الصفحة المضيئة من الوفاء في تاريخ الوطن. فقد جمعني أخيرا مجلس جرى فيه الحديث عن دور المملكة في تحرير الكويت من قبضة صدام حسين. وكادت تأخذهم الريبة في ما أقول وأنا أحدثهم، أيضا، عن موقف المملكة من أزمة الكويت مع الزعيم عبد الكريم قاسم عام 1961م. وهالني أن تضيع وقائع التاريخ، على ضخامة حجمها، فيما عصف بالعالم العربي خلال الخمسين عاما الماضية من مآس وانكسارات.

لقد كان قولا بليغا، حاسما، لا يلوذ بالغموض، عندما خاطب الملك سعود بن عبد العزيز ـ يرحمه الله ـ الزعيم عبد الكريم قاسم قبل خمسين عاما لينذره «إن في أعناقنا عهدا مقطوعا للكويت في أن نهرع لنجدته إذا تعرض لأي خطر».

ظل ذلك العهد حيا في ضمير المملكة العربية السعودية ليتحدى النوازل والمحن التي فجرها بغزوه للكويت حاكم طاغية، أرعن، جاهل بأحوال العالم، فكان ذلك الغزو، وما أفرزه، من بعد، من مضاعفات دولية، بداية لدمار العراق، موطن التاريخ، والشعر، والنفط، والمياه..

* وزير الإعلام ووزير الصحة السعودي الأسبق والأمين العام السابق لمجلس التعاون لدول الخليج العربية