أخيرا مات أبو البنيوية!

TT

جاك شيراك ليس له حظ! ففي اليوم الذي أصدر فيه مذكراته وشغل وسائل الإعلام الفرنسية طيلة هذا الصباح إذا بخبر وفاة المفكر الكبير كلود ليفي ستروس ينفجر كقنبلة موقوتة لكي يغطي عليه ويطمسه كليا هذا المساء ويصرف الأنظار عنه. أحيانا يتساءل المرء: هل طلب الرئيس ساركوزي من ليفي ستروس بكل لطف بأن يموت في هذا اليوم بالذات لكي ينسى الناس شيراك وكتابه؟ سؤال خبيث بطبيعة الحال، ولكنه ليس مستبعدا إلى الحد الذي تتصورونه. فرجال السياسة يكرهون بعضهم البعض أكثر مما تكره السيدات الجميلات بعضهن البعض أو يغرن من بعضهن البعض.. لكن فيما وراء هذه المزحة التي قد تكون بائخة أو في غير محلها ماذا سيبقى من ليفي ستروس عالم الإنتربولوجيا الشهير؟ أولا هو معروف في العالم كله بأنه مؤسس الحركة البنيوية. ولكن البنيوية الآن أصبحت في خبر كان ولم يبق منها شيء يذكر لحسن الحظ. اللهم ما عدا تعليمنا على الصرامة والدقة الموضوعية في البحث العلمي: أي في دراسة النص أو دراسة المجتمع. وهذا ليس بالقليل بالطبع. ولكنها بالغت في الموضوعية الجافة والباردة بل والصقيعية إلى درجة أنها قضت على نداوة الإبداع ورطوبة الخيال. بل وحولت النص إلى جثة هامدة من كثرة ما شرحته وفككته وهشمته في نهاية المطاف. لقد ارتكب ليفي ستروس خطيئة كبيرة عندما اعتقد بأنه يستطيع تحويل علم الإنتربولوجيا إلى علم يقيني مطلق مثله في ذلك مثل علم الفيزياء أو الكيمياء. فالإنسان لا يمكن أن يدرس بشكل موضوعي جاف كل الجفاف ولا يمكن تحويله إلى معادلات رياضية أو مجرد أرقام حسابية. الإنسان كائن من لحم ودم ومشاعر وأحاسيس وينبغي أن نأخذ كل ذلك بعين الاعتبار. وبالتالي فكفانا جريا وراء وهم العلمية المطلقة على طريقة علم الرياضيات أو الفيزياء. بقدر ما أن زميله سارتر بالغ في النزعة الذاتية المفرطة بقدر ما بالغ هو في النزعة الموضوعية المفرطة. نحن بحاجة إلى الذاتية والموضوعية في آن معا وليس إلى التطرف في هذا الاتجاه أو ذاك. نقول ذلك ونحن نعلم أن البنيوية حلت محل الوجودية وسيطرت على الشارع الفرنسي والعالمي. سارتر هيمن في الأربعينات والخمسينات، بل وحتى منتصف الستينات وليفي ستروس هيمن في أواخر الستينات وحتى نهاية السبعينات. ولكن الموضات الفكرية تمضي والحياة تبقى أكبر من أي موضة. لا يمكن لأي فلسفة مهما كبرت وعظم صاحبها أن تستنفد غزارة الحياة.

لكن كلود ليفي ستروس أحسن صنعا إذ اتخذ من علم الإنتربولوجيا أداة فعالة لتفكيك الآيديولوجيا العنصرية أو العرقية المركزية الأوروبية التي كانت مسيطرة إبان مرحلة الاستعمار. وهي آيديولوجيا استعلائية بغيضة تحتقر الشعوب الأخرى وتراثاتها الثقافية ومن بينها تراثنا العربي الإسلامي بالطبع. هنا لا يمكن إنكار عطائه الأخلاقي والإنساني وليس فقط العلمي. وخطابه الشهير في اليونيسكو عام 1952 عن العنصرية والثقافات البشرية أعطى دفعة قوية لحركات التحرر الوطني ضد الاستعمار أو قل خلع المشروعية العلمية على هذه الحركات بالذات. لقد تجرأ ليفي ستروس وقطع مع العقلية العنجهية للغرب داعيا إياه إلى احترام الثقافات البشرية الأخرى أيا تكن بما فيها تلك المدعوة بالبدائية. وبالتالي فكما قال برنار كوشنير: إنه يمثل الضمير الكوني وأحد ورثة عصر التنوير الكبار لأنه خلع الكرامة الإنسانية وبالتساوي على كل الثقافات وكل الشعوب. وانتقل بنا من علم الأنتربولجيا العنصري والكولونيالي للقرن التاسع عشر، إلى علم الأنتربولوجيا الإنساني الحديث الذي لا يؤمن بتفوق أزلي مسبق لعنصر بشري على عنصر آخر. فكل الشعوب قادرة على صنع الحضارات إذا ما واتتها الظروف. والحضارة ليست حكرا على الشعوب الأوروبية الشقراء كما حاول أن يوهمنا منظرو العنصرية الكبار من غوبينو إلى هتلر!

لكن هنا أيضا لا ينبغي أن نسقط في الاتجاه المعاكس أو التطرف المضاد: أقصد أنه ليس من مصلحتنا نحن أبناء العالم الثالث أو الرابع أن نسقط في الغوغائية والديماغوجية. لا ينبغي أن نصدق ليفي ستروس عندما يقول لنا بأنه لا يوجد أي فرق بين المجتمعات البدائية والمجتمعات الحضارية، أو بين المجتمعات المتخلفة والمجتمعات المتقدمة. يقال بأنه تراجع عن هذه الحماقة مؤخرا واعترف للثقافة الغربية ببعض التفوق على سواها من حيث سماحها بحق الاختلاف والتعددية الفكرية والحوار الديمقراطي كمنهجية فعالة لتشخيص المشاكل تمهيدا لحلها. من المعلوم أن إخواننا الأصوليين حاولوا استغلال نظريته هذه للقول بأننا نحن والغرب على مستوى واحد، وأننا لسنا بحاجة إلى تنوير فكري ولا من يحزنون لأن لكل ثقافة خصوصيتها الاختلافية التي ينبغي أن تظل متشبثة بها كما هي إلى أبد الدهر. وهكذا يلغون فكرة التقدم وفكرة الكونية أيضا: أي فكرة الاشتراك بعدة قيم عامة تشمل جميع الثقافات دون أن تلغي خصوصياتها. من بين هذه القيم الكونية التي ينبغي أن تشمل شعوب الأرض وليس فقط شعوب الغرب المتقدمة: احترام حقوق الإنسان وكرامته أيا يكن هذا الإنسان بغض النظر عن مشروطياته العرقية أو المذهبية. ومن بينها أيضا حرية الضمير والمعتقد والاعتراف بمشروعية التعددية الروحية والفكرية والصحفية والسياسية. فالثقافة التي لا تحترم هذه القيم الكونية الحضارية لا يمكن أن نضعها على قدم المساواة مع الثقافة المستنيرة التي تحترمها أو تتقيد بها. لا يمكن أن نساوي أي شيء بأي شيء! هذا ليس تسامحا أو كرم أخلاق. هذه عدمية. أو قل إنها حيلة ماكرة ولكن مكشوفة لمنع حصول التنوير الفكري في العالم الإسلامي. الثقافة التي تكرس قيم التخلف والانغلاق والتعصب وتكفير الآخرين بحجة الخصوصية أو الإخلاص للثوابت الفقهية القديمة لا يمكن أن تحظى بالاحترام أو أن يكون لها مكان في عصر العولمة الكونية.