حوارات جادة في القاهرة!

TT

الزائر السريع أو المتعجل للقاهرة لن يجد فيها إلا ضجيجا وازدحاما معتادا سواء في الواقع أو في الأفكار، والناظر لها من بعيد لن يخطف بصره أو يصل إلى سمعه إلا شعارات و«فرقعات» كلام، أما من نفضوا يدهم من مصر منذ فترة طويلة وباتوا يركزون على قوى إقليمية جديدة فلا يجدون في المحروسة ما يدفعهم إلى تغيير آرائهم السابقة. ونتيجة ذلك كله هو فقدان الاستماع الجيد، والمشاهدة الناضجة، لتفاعلات سياسية واقتصادية تجري داخل ما يقرب من ربع «الأمة العربية» أو أقل قليلا، دار أكثرها خلال الأسبوع الماضي في أروقة مؤتمر الحزب الوطني الديمقراطي الحاكم، أما أقلها ـ وإن كان أعلاها صوتا ـ فقد ساد بين دوائر المعارضة، والأهم، على صفحات وقنوات وسائل الإعلام.

ولمن هم خارج القاهرة، أو يزورونها من وقت إلى آخر للحكم والتقييم، فإن هناك مجموعة من الأمور والشروط الواجبة للاستماع والمشاهدة. أولها، أن لا تنسى أبدا أن عدد المصريين قد بلغ قرابة 84 مليونا، منهم 7 ملايين يعيشون خارجها ما بين الخليج وأمريكا الشمالية، وقد يكون هناك 18 مليونا في القاهرة، ولكن قرابة ستين مليونا يعيشون خارجها بين ريف لم يعد كما كان، وحضر لم يبقَ على حاله. وثانيها أن المصريين لم يعودوا فقط أبناء النيل، ولكنهم باتوا أبناء بيئات اقتصادية واجتماعية مختلفة أهمها تلك التي تعانق البحر في سيناء وعلى ساحل البحر الأحمر والمتوسط، ومع الصحراء والنهر فإن «الخلطة» التي يتكون منها الشعب المصري لم تعُد على تركيبتها. وثالثها أن ثلثي عدد المصريين عمرهم أقل من 35 سنة، ومن ثم فإنهم لا يعرفون الكثير عن الخمسينيات أو الستينيات، إلا باعتبارها تاريخا يضاف إلى أزمنة غابرة وممتدة آلاف السنين. ورابعها أن هؤلاء أفضل تعليما ـ رغم كل ما يقال ـ وأفضل صحة، وأكثر اتصالا بالعالم المعاصر بكل أدوات الاتصال الحديثة، ومنهم يخرج 30% من المدونات العربية على شبكة الإنترنت. وخامسها، أن التركيبة الاجتماعية والاقتصادية المصرية لم تعد على حالها، فالفلاح المصري التقليدي لم يعد كما كان، ومعه الطبقة الصناعية، وجماعة رجال الأعمال لم تعد جماعة بل شريحة اجتماعية متكاملة الأركان. وسادسها، أن مصر تشهد انفجارا إعلاميا «مصريا» خالصا، حيث لا يفضل القراء إلا ما يخص مصر، ولا يشاهدون إلا ما يتعلق بها. ومن بين قرابة 21 صحيفة يومية، وعشرات المحطات التلفزيونية، وخمسمائة مطبوعة متنوعة، وملايين التدخلات المختلفة على التليفونات المحمولة، فإن ما يخص مصر هو موضع الإقبال. وليس معنى ذلك أن المصريين قد نفضوا أيديهم من «الأمة العربية»، ولكن المؤكد أنهم نفضوا أيديهم من تلك النوعية من الأخبار التي تأتي إليهم من الأمة وتخص تاريخا بعيدا لا يعرفون متى بدأ، وبالتأكيد فإنهم لا يوجد لديهم أدنى الأفكار عن موعد النهاية.

نصف دستة الشروط هذه، وهناك ما هو أكثر منها، هي التي تخلق تلك الفجوة ما بين الزائر للقاهرة، والمستمع لمصر، وما بين ما يحدث فيها بالفعل. فقد باتت حوارات العاصمة المصرية لا تقوم على المرجعيات القديمة حول الحرب والسلام، والوحدة والانفصال، والدور الإقليمي والمكانة العالمية، وإنما حول مجموعة من المحاور التي يكون لها صدى في دول عربية وشرق أوسطية أخرى. وخلال المؤتمر السنوي السادس للحزب الوطني الديمقراطي الحاكم، والتعليقات التي جرت عليه، فإنه تحت الضجيج الحكومي، والشغب الإعلامي والحزبي، والحياة المصرية المتدفقة، كان هناك جدل حول مجموعة من القضايا العليا التي لا يلحظها كثيرا المشاهد من بعيد أو الزائر المتعجل.

أهم القضايا كانت لمن تكون الأولوية: السياسة بمعنى Politics أو السياسات Policies ، وفي الأولى فإن موضوع الانتخابات الرئاسية وحقيقة «التوريث» من عدمه تخطف الأبصار، أما الثانية فتدور حول مواصلة الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي حول برنامج معد سلفا منذ الانتخابات الرئاسية السابقة، مع التعديلات المطلوبة والتي حتمتها أزمات اقتصادية عالمية. وما جرى أن السياسات فازت بفارق كبير، ليس فقط بين أركان الحزب الحاكم، وإنما أيضا بين الأغلبية من المصريين الذين بات همهم الأول أن تكون الآلة التنموية المصرية فاعلة ومستمرة في ذلك خلال المرحلة المقبلة. ورغم جهود مضنية من قِبل المعارضة السياسية، وجماعات المشاغبة السياسية من نوعيات شتى مثل «كفاية» و«الحركة المصرية من أجل التغيير» و«مايحكمش» التي صار اسمها «لا للتوريث»، وكلهم يضمون نفس الأفراد تقريبا، فإن السياسات كانت هي التي فازت بعد أن وضع على المحك ذلك التساؤل الذي كان مطروحا دائما حول استمرار الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي أو التوقف للمراجعة التي عادة ما تنتهي إلى ركود وانتظار.

وما حدث هو أن السلطة المصرية قررت المضي قدما، ومن ثم بات عليها مواجهة مجموعة من التحديات الكبرى. التحدي الأول، هو مواجهة قضية الزيادة السكانية من خلال تطوير الخدمات الصحية ورفع الوعي واستهداف الفئات الفقيرة، حيث تعدي عدد المواليد في مصر مليونَي مولود خلال عام 2008، وهو ما ينتج آثارا سلبية علي عملية التنمية وفرص العمل المتاحة لمدة عشرين سنة كاملة هي عمر هذا الجيل. والتحدي الثاني، التنمية البشرية وتطوير التعليم الفني بهدف تحقيق التنمية من خلال توفير فرص العمل في المصانع والشركات الجديدة دون إهمال لتطوير التعليم العام. التحدي الثالث هو تطوير الخدمات الصحية وإحداث تغيير هيكلي في طريقة تقديم الخدمات الصحية للمواطنين، وتقنين العلاج على نفقة الدولة لتحقيق أكبر قدر من تكافؤ الفرص والشفافية فيه كمرحلة أولى للوصول إلي وجود مقدم كفء للخدمة الصحية دون تفرقة بين المستشفيات العامة والخاصة. أما التحدي الرابع فهو ترشيد الدعم كوسيلة من وسائل تحقيق العدالة الاجتماعية، لا سيما أن النظام الحالي ليس هو الأفضل حيث يذهب للغني كما يذهب للفقير. والتحدي الخامس هو التنمية الزراعية، وتحديد دور قطاع الزراعة في عملية التنمية بحيث يعطي مصر مثلما يأخذ، وذلك عن طريق مساعدة الفلاح ودعمه بكل الطرق، وأن الحكومة يجب أن تزيد قدرتها الأساسية لتطوير هذا القطاع من خلال تحقيق أمن مصر الغذائي في ارتباطه بأمن مصر المائي وتحديد نوع المحاصيل التي تلائم هذا الاتجاه، وتطوير نظم الري خصوصا في الأراضي القديمة. أما التحدي السادس فهو أن مصر في بداية طريق الإصلاح المالي والاقتصادي الذي يجب أن يستمر وفق سياسات وإجراءات معينة منها زيادة الاستثمار، وإصلاح النظام الضريبي.

هذه التحديات الستة فتحت الباب لنقاشات وحوارات واسعة حول الاتجاه الذي تأخذه الاستثمارات السياسية والاقتصادية المصرية، وعما إذا كان واجبا أن تسير في اتجاه الدولة أو المجتمع. وليس سرا على أحد أن الاتجاه الغريزي في مصر يتجه دوما نحو الدولة التي لديها قوة مغناطيسية هائلة جاءتها من خلال آلاف السنين من الوجود، ولكن الأمر لم يكن كذلك خلال النقاش والحوار في القاهرة حيث بات المجتمع هو الفائز من السياسات المختلفة سواء كان الأمر متعلقا بالتعليم أو الصحة أو الاستثمارات الاقتصادية المختلفة. ولكن ما لا يقل عن كل ذلك أهمية هو التوجه نحو اللا مركزية من خلال نقل وظائف بأكملها في التعليم والصحة والإدارة الاقتصادية من القاهرة إلى المحافظات المختلفة، ومع ذلك توفير البنية الأساسية التي تسمح بمعدلات عالية من النمو والانتشار للشعب المصري على اختلاف مناطقه وطبقاته. وبينما جعلت الطبيعة نهر النيل يمضي من الجنوب إلى الشمال، فإن خطوط الغاز المتولدة في البحر الأبيض المتوسط باتت تتحرك من الشمال إلى الجنوب حتى الحدود مع السودان، بينما تُبنى الطرق العرضية بين وادي النيل وسواحل البحر الأحمر لكي ترتبط بالمدن الناشئة في مرسى علم وسفاجا والغردقة والعين السخنة، وعبر السويس ـ أو تحتها ـ إلى سيناء شمالا وجنوبا. ودون الدخول في كثير من التفاصيل فإن كل تلك التغييرات في المجتمع من خلال سياسات جارية بالفعل تجعل حوارات القاهرة ليست تجاه أمور معلقة في الهواء، بل إنها بشأن أمور جارية على الأرض.