المغرب الأقصى والمشرق

TT

كذبت مبادرات رسمية وشعبية مغربية توالت في المدة الأخيرة الظن الذي جنح بالبعض في وقت من الأوقات إلى تصور أن المملكة المغربية باتت تغض النظر عما يجري في المشرق العربي من تطورات، حتى أن أصواتا في داخل المغرب نفسه تشاءمت من وقوع المغرب في نوع من الانعزالية.

ولكن الصدارة التي اتخذتها قضية القدس، وبالتالي قضية حقوق الشعب الفلسطيني، وحذر المغرب تجاه التحركات الإيرانية، جاءت لتدل على أن المغرب ليس متغيبا عن الساحة، بل يتحين الوقت المناسب ليعلن وليؤكد التزاماته.

وقد ظهر بعض التشويش بهذا الصدد كان يمكن أن يؤدي إلى اضطراب في الرؤية. لكن السياسة الخارجية للدول لا ترجع إلى الهوى والعشوائية، بل هي بنت الحقائق والمصالح التي تتألف منها العوامل الثابتة التي تحركها.

ولا يمكن للمغاربة أن يغفلوا عن شيء أساسي واضح وهو أن المنطقة العربية هي بيئتهم. وفي عالم «معولم» يتجه إلى التهيكل في تجمعات جهوية، لا يوجد خيار أفضل للمغرب من الاصطفاف في المجموعة العربية.

غير أن ذلك لن يتم إلا طبقا لطبيعة دور المغرب الذي رسمته الجغرافيا والتاريخ. فمنذ قرون يتحرك المغرب بكثافة ملحوظة في أوربا الغربية وفي إفريقيا الغربية. ولكنه لا يغفل عن أرومته، وارتباطاته القوية مع المشرق العربي. ولا توجد منطقة في العالم تتفهم مواقف المغرب وتتفاعل إيجابيا مع أوضاعه وقضاياه ومشاكله مثل المنطقة العربية. وهي المنطقة الوحيدة من بين مختلف مناطق العالم التي لا تتأثر بالتشويش الذي يتعرض له المغرب من جهة ملف الصحراء.

ثم إن على المغرب دينا تجاه إخوته المشارقة الذين محضوه تأييدهم المبدئي والفعال أيام الكفاح الوطني حينما كان الاستعمار يعمل على عزل المغرب عن المشرق، كي يستفرد به ويدمجه في جهازه الاستعماري عبر مشروع الاتحاد الفرنسي، وعبر سياسة الاستيطان التي قاومها المغاربة بنجاعة استنادا بالذات على الدعم الذي تلقوه من إخوانهم.

ومعلوم أن الوطنين المغاربة ركزوا على الجامعة العربية، وعلى الدول المشرقية المستقلة، وخاصة مصر، لمساعدتهم على تدويل النزاع مع الاستعمارين الفرنسي والإسباني. قد مكنت تلك المساعدة من الحصول على دعم ملموس سياسي ومادي من لدن العالم العربي، ومن خلاله دعم دول العالم الثالث التي ألفت مع الدول العربية المستقلة كتلة متراصة للعمل في حظيرة الأمم المتحدة على مناهضة الاستعمار الغربي.

ثم إن قضايا المشرق احتلت مكان الصدارة دائما في اهتمامات المغرب بعد الاستقلال. وفي الفترة التالية لسنة 1956 اتسمت المبادرات الأولى التي قام بها المغرب المستقل وهو ينسج علاقاته الخارجية، بانخراط فوري في المعارك التي خاضتها البلدان العربية في مضمار استكمال التحرر.

وإلى جانب ذلك شهد النصف الثاني من الخمسينيات من القرن الماضي اضطرابات نشبت فيما بين الدول العربية الرئيسية كذيول للاحتكاكات التي وقعت في حظيرة الجامعة العربية، وكذا نشأت تيارات متضاربة في المشرق نتيجة ضغوط الدول الغربية على بعض البلدان العربية لجرها إلى الأحلاف التي أفرزتها الحرب الباردة.

وفي غمرة ذلك اتسم سلوك المغرب ببعض التريث في الانضمام للجامعة العربية، حيث لم يلتحق بها، هو وتونس، إلا بعد أكثر من عامين من الاستقلال. وذلك راجع إلى انكباب المغرب على ترتيب أوضاعه الداخلية، ولكن أيضا لرغبته في الابتعاد عن الخلافات العربية التي داهمته وهو يخطو خطواته الأولى في المجتمع الدولي.

ولا يفوتنا أن نلاحظ أن المغرب كان يتوجس من نفوذ مصر في الجامعة العربية. ومعلوم من جهة أخرى أن هيمنة الناصرية في الشارع العربي كان لها مفعولها. وبسبب تلك الهيمنة وقعت اصطدامات مباشرة صاخبة بين تونس بورقيبة وبين القاهرة. وكانت الجامعة مسرحا لتلك الاصطدامات، في حين بقي التوجس المغربي من الهاجس المصري طي الكتمان. ويعود الفضل في إقامة الجسور بين مغرب محمد الخامس ومصر عبد الناصر إلى السفير عبد الخالق الطريس، وهو زعيم وطني مرموق في المغرب. فقد نجح في إشاعة طابع مريح للعلاقات بين مصر والمغرب خاصة بعد نجاح الزيارة التي قام بها محمد الخامس إلى القاهرة، حيث صادف ذلك حادث رمزي قوي هو تدشين إحدى مراحل السد العالي. وقبل ذلك كان المغرب قد تضامن مع مصر لدى العدوان الثلاثي وفي مختلف المواقف التي كان ناصر يصطدم فيها مع الغرب.

على أنه من المفيد أن نكرر القول إن المغرب المستقل حرص على الابتعاد عما من شأنه أن يعمق التناقضات العربية، في حين لم يكف عن التضامن مع أشقائه في المشرق، إلا أنه كان يشعر بقرابة خاصة مع الدول المعتدلة.

ويجدر التذكير بأن المغرب المستقل قد وجد أن هناك نسقا سياسيا قائما في دول المشرق، في الوقت الذي أدت به الظروف السائدة في شمال إفريقيا إلى أن ينخرط في مسلسل غير متطابق مع النسق المشار إليه. بل أدى الأمر إلى إقامة نسق خاص في المنطقة يقوم على التنسيق بين أقطار المغرب العربي، ولهذا كان المغرب وتونس وجزائر الثورة يتحركون في إطار ذلك المسلسل براحة، في حين أن مشروع المغرب العربي اعتبر في بعض دول المشرق بمثابة مسعى انفصالي.

وكان المغرب يتضامن مع دول المشرق كلما تعرضت للتآمر من لدن الغرب، من جراء تمسكها باستقلاليتها، في حين أنه كان يعمل جاهدا على أن ينأى بنفسه عن التناقضات الناشبة في دول المشرق. إذ ابتدع المغرب لنفسه خطا سياسيا قوامه عدم الانغمار في التناقضات المشرقية.

وكانت للمغرب انشغالاته الخاصة بشأن تصفية الوجود العسكري لكل من فرنسا وإسبانيا والولايات المتحدة في بلاده، وقد تفهمت هذه مطالبة المغرب بتفكيك القواعد التي أقيمت بمقتضى اتفاق تم مع فرنسا. ولجأ المغرب إلى تصفية هذا الملف وفق سياسة معتدلة لم يصاحبها الصخب الذي كانت تتسم به مطالب من هذا الصنف في بعض دول المشرق. وهناك أمر ميز كثيرا السياسة الخارجية المغربية في الفترة الأولى التالية لاستعادة الاستقلال، هو الأولوية التي كانت تحتلها في السياسة الخارجية المغربية مسألة استقلال الجزائر، وهو أمر أساسي كيف علاقات المغرب مع جواره المباشر في أوربا الغربية. وبسبب الانخراط بكيفية حاسمة في معركة استقلال الجزائر كان المغرب يتعرض إلى متاعب جمة مع فرنسا.

وتفاعل المغرب بكيفية نشيطة مع الظروف التي نشأت في الستينيات من القرن الماضي، فعمل على تحرير الدول الإفريقية الخاضعة للاستعمار. وكان سباقا إلى دعم المستعمرات البرتغالية وجنوب إفريقيا. وهذا صنع للمغرب مركزا مرموقا في تلك الفترة، كبلد رائد لمناهضة الاستعمار، وفي طليعة الدول الإفريقية التقدمية المتحررة.

إن هذا التذكير بتطورات ومواقف طبعت سياسة المغرب في ماض قريب لن يكتمل إلا بإشارة ولو عابرة إلى المبادرات التي طبعت سياسته في عقدي السبعينيات والثمانينيات، في مضمار بلورة مشروع عربي للسلام. وفي هذا تدخل مؤتمرات القمة العربية، ومدارها جميعها القضية الفلسطينية، ومحاولات المغرب للقيام بدور مسؤول، لتقريب وجهات النظر فيما بين الدول المشرقية، أو القيام بأدوار ملموسة لإيجاد تسوية سياسية كفيلة بإحقاق الحق الفلسطيني، وخاصة على يد المغفور له الحسن الثاني طيلة ثلاثة عقود.