هل يصبح محمود عباس «مرشد» دولة السلطة الوطنية؟!

TT

ما لم يُقلْ حتى الآن وما لم يجرِ التطرق إليه، رغم مرور نحو أسبوع على القرار الذي اتخذه محمود عباس بإبداء رغبته بعدم خوض معركة الانتخابات المقبلة التي هو مستمر بالإصرار على أنها ستجري في موعدها في يناير (كانون الثاني) المقبل، هو حقيقة ما دار بين الرئيس الفلسطيني ووزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلنتون في الاجتماع الذي جرى بينهما في (أبوظبي) في الإمارات العربية المتحدة والذي وُصف بأن ما دار فيه جعل أبو مازن يتخذ هذا القرار الذي اتخذه.

لقد ذهب البعض بعيداً، وشارك في هذا الأمر بعض المحللين وبعض كبار المسؤولين في بعض الدول العربية، عندما تحدثوا عن أن لجوء كلنتون خـلال هذا الاجتماع إلى حشر (عباس) في الزاوية وتخييره بين إما أن يوافق على بدء المفاوضات مع الإسرائيليين بدون شروط مسبقة وبالقفز من فوق إصرار بنيامين نتنياهو على مواصلة استيطان ما يسميه «النمو الطبيعي» ومواصلة الإصرار على أن مفاوضات الوضع النهائي لن تشمل القدس (الشرقية) أو أن يخلي مكانه لغيره حتى لا يكون مصيره كمصير سلفه ياسر عرفات الذي دفع ثمن عدم تنازله عن المدينة المقدسة في مفاوضات كامب ديفيد الثانية التي كما هو معروف انتهت بالفشل الذريع.

ولتكتمل هذه «الفبْركة» المقصودة، التي ليس لها أي أساس من الصحة، فقد أدلت كلنتون بذلك التصريح الذي قالت فيه: «إنها مستعدة لمواصلة العمل مع (أبو مازن) بالنسبة لعملية السلام في الشرق الأوسط حتى بعد أن يصبح في موقع جديد» وربما أن المقصود هنا هو بعد تركه موقع الرئاسة الفلسطينية وبقائه رئيساً لمنظمة التحرير ورئيساً لحركة «فتح».

وحقيقة وبغض النظر عن هذا التصريح، الذي إن هو أضيف إلى التصريح «الأبْله» الذي أطلقته كلنتون بعد آخر اجتماع بينها وبين بنيامين نتنياهو الذي حمَّلت فيه الفلسطينيين مسؤولية وضع العصي في عجلة المفاوضات المتوقفة وطالبتهم بالتخلي عن شرط ضرورة وقف الاستيطان مسبقاً، فإنه يمكن التأكيد على أن الرئيس الفلسطيني كان قد اتخذ قراره الآنف الذكر قبل أن يذهب إلى اجتماع (أبوظبي) في دولة الإمارات العربية المتحدة وأن مجموعة عوامل هي التي دفعته إلى هذا القرار من بينها «محاباة» الولايات المتحدة للإسرائيليين كما قال في خطاب إبداء الرغبة في عدم الترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة الذي كان وجهه قبل أسبوع للشعب الفلسطيني وللعرب والإسرائيليين وللأميركيين والعالم كله.

تقول المعلومات المؤكدة إن (أبو مازن)، بمجرد التقائه بوزيرة الخارجية الأميركية في هذا الاجتماع الآنف الذكر المشار إليه، قد بادر، حتى قبل إعطائها المجال لإيضاح وتصحيح ما كانت قالته في تصريحها الذي حملت فيه الفلسطينيين مسؤولية عدم استئناف المفاوضات بسبب ما أسمته شروطهم «المسبقة»، إلى إبلاغها بأن حادثة تقرير «غولدستون» كانت بالنسبة إليه درساً قاسياً وأن أكثر ما آلمه وأزعجه أن أحد أحفاده الأطفال قد عاد من المدرسة ذات يوم ليبلغه وهو ينتحب والدموع تنسكب مدرارة من عينيه بأن زملاءه يصفونه أي يصفون الرئيس الفلسطيني بأنه خائن وأنه باع القضية الفلسطينية.

وقال (أبو مازن) إن الولايات المتحدة هي التي وضعته في هذا الموضع الصعب وأنها بتراجعها عن الموقف الذي كان كرره الرئيس باراك أوباما مرات عدة من بينها في خطابه الشهير في جامعة القاهرة بالنسبة لضرورة وقف الاستيطان بكل أشكاله قبل استئناف المفاوضات المتوقفة هي التي جعلت وطنيته موضع تساؤل وإلى حد أن «حماس» ومعها إيران وتحالف «فسطاط الممانعة» لم يتورعوا عن اتهامه بالخيانة الوطنية وعن المطالبة بنـزع جنسيته الفلسطينية منه!!.

لقد حاولت كلنتون في هذا الاجتماع، وفي اجتماع ثنائي منفرد جمعها به، ثني عباس عما هو مصمم عليه لكنه واصل إصراره على عدم الترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة وأنه لم يعد يعتبر عملية السلام قائمة ما دام أن الإدارة الأميركية تحت ضغط أوضاعها الداخلية قد تراجعت عن مواقفها السابقة وما دام أن الحكومة الإسرائيلية مصممة على استثناء القدس من مفاوضات المرحلة النهائية.

إن هذه هي حقيقة ما جرى وأن (أبو مازن) عندما اتخذ هذا القرار، الذي يبدو أنه لا عودة عنه ما لم يتغير واقع الحال وتستجيب أميركا للنقاط الثماني التي ركز عليها في خطاب عدم الرغبة في الترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة، فإنه اتخذه احتجاجا على المواقف الأميركية واعتراضا على التصرفات الإسرائيلية وعتباً على تراخي المواقف العربية، وبالتالي فإن كل ما قيل في بعض الفضائيات، وتبناه بعض المحللين الجاهزين للرماية العشوائية في هذا الاتجاه باستمرار ودائماً وأبداً ومع هؤلاء بعض المسؤولين العرب الذين يخيطون بالمسلة الإيرانية ليس له أي أساس مـن الصحة.

وهكذا فإن أغلب الظن أن محمود عباس (أبو مازن) لا يستطيع النزول عن الغصن المرتفع في الشجرة العالية الذي وضعه فوقه باراك أوباما ولا التراجع عن هذا الموقف الذي أعلنه ما لم يستجب الأميركيون إلى نقاطه الثماني الآنفة الذكر وما لم يتم التعاطي مع عملية السلام على أساس هذه النقاط التي هي قرارات الأمم المتحدة المتعلقة بالصراع في الشرق الأوسط وخارطة الطريق ومبادرة السلام العربية ورؤية حل الدولتين بالاستناد إلى الوضع الذي كان سائداً قبل الرابع من يونيو (حزيران) 1967 وعلى أن تكون القدس الشرقية عاصمة لدولة فلسطين المستقلة المنشودة.

وهنا فإن ما يمكن أن يشكل مخرجا مقبولا من هذا الوضع الذي أصبح أكثر تعقيداً بعد أن اتخذ (أبو مازن) هذه الخطوة التي اتخذها هو العودة إلى منظمة التحرير لتتسلم الأمور مباشرة في حال عدم إجراء الانتخابات الرئاسية في موعدها في يناير (كانون الثاني) المقبل، وذلك على أساس أن رئيس هذه المنظمة وفقاً لقرارات دورة المجلس الوطني الفلسطيني التي انعقدت في الجزائر في عام 1988 هو رئيس الدولة الفلسطينية وأن الرئيس الراحل ياسر عرفات كان قد لجأ إلى هذا المخرج نفسه ردّاً على تعطيل الإسرائيليين للانتخابات الرئاسية والتشريعية في النصف الثاني من تسعينات القرن الماضي.

إن المعروف أن منظمة التحرير هي التي مثلت الشعب الفلسطيني في مؤتمر مدريد الشهير وإنها هي التي وقعت اتفاقيات أوسلو والتي واصلت التفاوض مع الإسرائيليين كل هذه السنوات الطويلة الماضية ثم وأن المعروف أن السلطة الوطنية هي جهاز من أجهزة هذه المنظمة وأن المجلس التشريعي جزء من المجلس الوطني، وبهذا فإنه بإمكان محمود عباس باعتباره رئيساً للمنظمة الفلسطينية أن يلعب دور مرشد الثورة علي خامنئي في إيران سواء أٌجريت الانتخابات الرئاسية في موعدها المحدد وانتخب رئيسٌ جديد وبوضعية كوضعية محمود أحمدي نجاد أولم تـُجر وهذا ما كان فعله (أبو عمار) بالنسبة لهذه الحالة الأخيرة.

لكن وفي كل الأحوال ورغم كل هذا فإن القناعة السائدة فلسطينياً وعربياً هي أنه لا يمكن أن ينسحب (أبو مازن) من المعركة في هذه المرحلة الخطيرة، وهو الذي نذر حياته لقضية شعبه منذ ما بعد خروجه مع أهله من صفد في عام 1948 وعلى مدى الستين سنة الماضية، ولهذا فإن المؤكد أن الرئيس الفلسطيني حتى وإن هو أصر على موقفه فإنه سيمارس حقه كرئيس لمنظمة التحرير وكرئيس لحركة «فتح» سواء أجريت الانتخابات المقررة بدون مشاركته وأنتُخب غيره رئيساً للسلطة الوطنية أم لم تجر بسبب عوامل كثيرة من بينها هذا الانقسام الذي يضرب الساحة الفلسطينية والذي يبدو أن وظيفته بالأساس كانت إيصال الوضع الفلسطيني إلى ما وصل إليه.