انفصال الجنوبيْن عن شماليْهما لا قدَّر الله.. وتأتي البقية

TT

مع شديد الأسف تبدو الأمة على موعد مع انفصاليْن يعززان، في حال حصولهما، ظاهرة الانقسامات المستشرية في بعض الدول العربية والتي ربما تنتهي إلى انفصالات صغيرة أو إلى «كانتونات» على نحو التسمية المتعارَف عليها، كأن نصل إلى يوم يصبح فيه لبنان على سبيل المثال لبنانات «لبنان إيراني» و«لبنان عوني» و«لبنان جعجعي» و«لبنان جنبلاطي» و«لبنان حريري» وهكذا.. وتصبح فلسطين فلسطينات «فلسطين فتحاوية عباسية» و«فلسطين حماسية مشعلية» و«فلسطين جهادية شلحية» و«فلسطين جبهوية حواتمية».. وهكذا. ويصبح العراق عراقات «عراق مالكي» و«عراق تكريتي» و«عراق صدري» و«عراق موصلي» و«عراق بصراوي» و«عراق كركوكي» و«عراق كردي».. وهكذا. ومثل هذا الاحتمال ليس بعيدا في حال أمضينا بعض الوقت نتأمل في هذا الذي يحدث في لبنان الذي يناحر بعضه بعضا بذريعة أن استلاب الزعامات السياسية والحزبية للغنائم ليس عادلا، مع ملاحظة أن ما يعتبره هؤلاء حقا لهم هو حق مقدس للناس استولت عليه الزعامات الحزبية والنيابية والحركية. وما نستنتجه عند التأمل في ما هو حاصل في لبنان نستنتج مثيله عند التأمل في ما هو حاصل بين «دولة رام الله» و«دولة غزة». كما نستنتجه عند التأمل في ما هو حاصل في العراق.

الانفصالان الوارد حدوثهما لا قدَّر الله هما: انفصال الجنوبيْن عن شماليْهما. جنوب السودان عن شماله. وجنوب اليمن عن شماله. والمؤشرات على ذلك كثيرة. ومن خلال بعض التوضيحات والمعلومات والملاحظات يتأكد لنا الآتي:

بالنسبة إلى السودان هنالك موعد محدَّد له مطلع العام 2011 لإجراء الاستفتاء لتقرير المصير، أي بما معناه يقرر الجنوبيون إما الاستقلال بالانفصال وإما أن خيرهم في الانصهار بالسودان الموحَّد لأن بناء دولة مستقلة ليس بالأمر السهل كما إنشاء حركة تمرد. ثم إن الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية التي غرست في الجنوبيين فكرة الدولة المستقلة عن الشمال وعملت لبضع سنوات على تعزيز الفكرة وبحيث تتحول إلى حس قومي ومسيحي في بعض المفاصل، ليست الولايات المتحدة الراهنة التي تئن تحت وطأة أزمات اقتصادية خانقة وإخفاقات عسكرية متلاحقة وهذا يعني أنها لن تستطيع تعويم استنباط دولة جديدة ستكون قابلة للانهيار في حال تباطأ المستنبِِط، وهو هنا أميركا وبعض دول أوروبا، في تقديم العون.

ولقد بانت ملامح الجنوح نحو الانفصال منذ أن انتهى تقاسُم أراضي الثروة البترولية إلى أن الجنوبيين يحظون بمساحات هائلة من شأن الذهب الأسود الذي في باطن جزء كبير من أراضي تلك المساحات، أن يسد رمق الجنوبي ويغنيه عن مد اليد إلى الغير. وبعد هذا التقاسم رأينا الشريك الجنوبي يتصرف مع الشريك الشمالي بالندِّية، ثم نراه أيضا يتصرف في علاقاته الدولية على أساس أنه مستقل وليس طرفا في شراكة مع الحكم في الشمال من دون أن يستوقفه أن هنالك بعض العهود والاتفاقات التي تفرض عليه الانسجام في ما يفعل. وكانت هنالك أمثلة ووقائع كثيرة في هذا الشأن وإلى درجة أنه في بعض المواقف كانت الحالة تنطوي على بعض السخرية والاستهزاء، بحيث إن رئيس الدولة يتخذ موقفا من قضية ما لكن النائب الأول للرئيس يتخذ وعلى الملأ موقفا مناقضا لموقف الرئيس الذي كان يتقبل ذلك من منطلق الحفاظ على الخيط الرفيع المشدود بحيث لا ينقطع مع الشريك الجنوبي قبل انقضاء سنوات الاختبار التوحُّدي الذي يسبق الاستفتاء إما بالاتكال على الله وعقْد القران الشمالي ـ الجنوبي وإما بالانفصال من جانب الجنوب بالرضا في هذه الحال وبما لا يوجب إعلان الحرب على المنفصل كونه يفعل ذلك بشرعية الاستفتاء وليس بالأمر الواقع الانقلابي كالذي فعلتْه سورية الكزبرية عندما انفصلت عن عبد الناصر، متسببة له بصدمة نفسية أسست بدورها لحالة صحية صعبة تقوم على اضطراب في الضغط وتورُّم في شرايين القلب وعدم استقرار في نسبة السكَّر في الدم. وبقيت تداعيات الصدمة وما تلاها مستمرة إلى أن لقي الرئيس وجه ربه يوم 28 سبتمبر/ أيلول 1970 عن 52 سنة، أي إنه لو كان ما زال حيا لكان الآن في الواحدة والتسعين من العمر وهو عمر جائز افتراضا، ذلك أن شقيقه شوقي الذي سبق أن شغل مدير مكتب شقيقه الرئيس للشؤون الداخلية ثم مناصب أخرى من بينها منصب وكيل وزارة التربية والتعليم عاش طويلا وتوفي يوم الخميس 5 نوفمبر/تشرين الثاني عن 83 عاما.

ونخطئ الظن إذا نحن افترضْنا أن وسواس الانفصال يوسوس فقط في نفوس كُبراء الجنوبيين ومن بينهم سيلفاكير الوارث على أهون السبل زعامة كانت من نصيب الزعيم الأبرز للطيف الجنوبي القائد التاريخي جون قرنق الذي غيَّبه عارفو أرقام حسابات مالية في حادثة هليكوبتر رئاسية غير سودانية. فها هو خال الرئيس عمر حسن البشير يستبق الجميع بالدعوة إلى انفصال الشمال عن الجنوب وها هم زعماء المعارضة في الشمال وبالذات السيد الإمام الصادق المهدي والدكتور الشيخ حسن الترابي عافاه الله يحتار الأمر في شأن مداولاتهم في جوبا مع أقطاب الزعامة الجنوبية هل هي لتقويض الشراكة مع «الإنقاذ» الحاكم أم هي لإقناعهم بأن التعايش تحت سقف السودان الموحَّد أكرم بكثير من الاستفراد بالجنوب لإقامة دولة مستقلة شكلا لأن الاستقلال هو استقلال الإرادة في الدرجة الأولى، وإرادة الجنوبيين مصادَرة ومقفل عليها داخل إضبارات في دهاليز مؤسسات سياسية وأمنية أميركية. وعندما يقول خال البشير ما قاله وبالصوت العالي فإن الرجل إما فعل ذلك كوسيلة ضغط على الشريك الجنوبي لمصلحة ابن أخته الرئيس البشير. وإما أن الرجل مقتنع أيضا بأن الاندماج بالكامل لن يكون سهلا وأن خير السودان هو في اعتماد قاعدة الجنوبي جنوبي والشمالي شمالي ولن يتطايقا. ثم نجد في أوساط العاصمة المثلثة من يقول ما معناه: إذا قال الخال فصدِّقوه فإن القول ما قال الخال.. تماما كمثل وجوب تصديق قول خُذام في الزمن الغابر.

يحاول الرئيس البشير إنقاذ ما يمكن إنقاذه كي يجدد الرئاسة انسجاما مع ظاهرة الرئاسات العربية التي تجددت إماراتيا وتونسيا وجزائريا قبل ذلك، أو التي برسم التجديد، مرتاحا بذلك من صداع التوريث كما الحال مع الجارتين مصر وليبيا، ويحاول في هذا السياق تبديل المواقع ورفع منسوب التحدي في وجه الذين ينوون به اعتقالا. وعلى رغم كل هذا الجهد المضني يبقى وسواس الجنوب المستقل يوسوس في نفوس الشريك الجنوبي وفي الوقت نفسه يرمي بثقله على الرئيس البشير الذي جاء إلى السلطة رافعا راية إنقاذ السودان فإذا به لا ينقذ ولا مَن يُنقذون وهي صدمة وندبة من الصعب أن تمحى من الجبين.

وأما الجنوب الآخر فإن مشكلته كبيرة وأكثر تعقيدا. فكما أن اللاعب الأميركي ـ الأوروبي ـ التبشيري يمسك بخيوط لعبة جنوب السودان، فإن اللاعب الإيراني يراهن من خلال الحوثيين الذين يخوضون مغامرة تمرُّد سبق أن خاضها جنوبيو السودان وأكراد العراق، على أن الجبهة اليمنية هي البوابة الرديف للبوابة العراقية من أجل إقحام المملكة العربية السعودية في أتون التدخلات التي يرفضها الملك عبد الله بن عبد العزيز ويريد بدلا من ذلك نشْر ثقافة الحوار الوطني والمصالحة وحوار الأديان والتنمية عنوانا لحقبة جديدة تعوِّض الأمتين إخفاقات سنوات صعبة مضت ودفعت الأمتان الكثير من الخسائر والمهانات نتيجة ذلك.

ومن المؤسف أن بعض القيادات الجنوبية تمارس ورقة الانفصال وكأنما هي لعبة مسلية وليست ضربة في الصميم للكيان الموحَّد. لكننا من باب الإنصاف نقول إن ما يجعل هؤلاء يجنحون نحو هذا الخيار المر هو أن صيانة العملية الوحدوية كانت تفتقد إلى الحصافة آخذة بمبدأ الاستئثار أحيانا والإلغاء أحيانا أخرى وهاجس التوريث بين الأحيان والأحيان الأخرى، وفي ظل هذا الواقع وأيضا في غفلة عين من جانب النظام الذي يقوده الرئيس علي عبد الله صالح، تغلغلت إيران وانتشرت ودربت وشرذمت وبعثرت ووضعت النظام أمام خياريْن: أحدُهما مر والآخر أكثر مرارة.. أي إما الانخراط في علاقة ذات طابع استراتيجي مع الثورة الإيرانية تستهدف تطويق الخليج من النقطة الأبعد ما دام الخليجيون يرفضون إلحاح اليمن في الانتساب إلى منظومتهم، وإما تثوير الجيْب الحوثي الزيدي الذي يتبين أنه كان على درجة من الجهوزية سلفا، بدليل أن الرئيس علي عبد الله صالح يكثر من التعهدات بأن القضاء على التمرد الحوثي سينتهي قريبا لكن ذلك لا يحدث ويضع الشأن العسكري لليمن على المحك.

خلاصة القول: إذا استمرت الأمور على نحو ما نلاحظه في السودان فإن جنوبه إلى انفصال وهذه رغبة دفينة أفصح عنها الرجل الأول سيلفا كير، وإن كان بعض حوارييه خففوا من باب التكتكة حدتها. وإذا استمرت الأمور على نحو ما نلاحظه في اليمن فإن رهان المراهنين على انفصال الجنوب سيتحقق. وفي حال حدوث هذين الانفصالين لا قدَّر الله ستكر سُبحة الانفصالات الصغيرة التي أشرنا إليها. والله أعلم.