حقيقة اللا اعتذار الفرنسي

TT

رغم مرور عقود من الاستقلال الجزائري، فإن العلاقات بين فرنسا والجزائر تعيش حالة متواصلة من المد والجزر وفترة هدوء ما قبل العاصفة ثم العاصفة. فالتوتر قد أصبح آلية من آليات العلاقة الفرنسية الجزائرية ولم يتمكن الطرفان من توظيف هذه الآلية بالشكل السياسي الدقيق، ذلك أن أمارات عديدة تشير إلى أنه توتر لا يخضع إلى استراتيجية مدروسة وذات أهداف سياسية براغماية، بقدر ما هو توتر يجمع بين الحقيقي والمجاني خصوصا إذا ما وضعنا في الاعتبار المتغيرات الراهنة والمصالح المتعطلة التي تتعارض والحرص الفرنسي الجزائري على التمسك الأعمى بفكرة الماضي الذي لا يجب أن يمضي.

طبعا التوتر هو نتاج الملف المتعلق بمطالب الجزائر المتمثلة في ضرورة اعتذار فرنسا عن جرائم الاستعمار وتداعياته وقد ازدادت حدّة التوتر لمّا ارتكب البرلمان الفرنسي غلطته الكبرى بمصادقته على قانون 23 فيفري 2005 الذي يمجّد الاستعمار. لا شك في أن الطرف الجزائري محق في مطلبه وفي جعله المطلب الشرط لبناء علاقات صحية مع فرنسا. ذلك أن مخلفات أكثر من قرن وثلاثين عاما من الاستعمار والقتل والتشنيع ومحاولات طمس الهوية الجزائريّة وجعل الشخصية الجزائرية في حالة تبعية، كل ذلك أمر لا يُستهان به خصوصا أن آثاره باقية ومتراكمة دون أن ننسى قضية فظائع الجرائم النووية الفرنسية والتي يبلغ عددها حسب بعض المحللين 47 تجربة نووية ويُقال إن قوة التفجيرات النووية التي جربتها فرنسا في جنوب الصحراء هي ضعف قوة تفجيرات قنبلة هيروشيما تلك الفضيحة التاريخية الشاهدة على حيوانية الإنسان «المتقدم»!

من هذا المنطلق وغيره، فإن مطالبة الجزائر بالاعتذار رسميا وبصريح معاني الاعتذار واستحقاقاته إضافة إلى تعويض المتضررين مواطنين جزائريين ودولة، تُعتبر مطالب معقولة ومنطقية بل هي حقوق من الضروري تسديدها كديون تاريخية وأخلاقية لا مفر منها. ولكن الملاحظ هو أنه في مقابل التعنت الجزائري المستند إلى قوة الحق، فإن الموقف الفرنسي الرافض بشدة لواجب الاعتذار لم يعرف كيف يُدير الأزمة وكيف يحدد سبل معالجة التوتر وأكبر اجتهاد قام به ساركوزي هو إدانته المطلقة والعامة للاستعمار في أثناء زيارته الجزائر عام 2007. وهو اجتهاد بدا شحيحا مقارنة بقانون فرنسا في 13 فيفري 2005 الذي يمجّد الاستعمار وربما لو لم ترتكب فرنسا غلطة إصدار ذلك القانون غير الرصين من ناحية الذكاء السياسي، لكان التعاطي مع المبادرة ساركوزي أكثر إيجابية وتفاعلا. بل إن تصريحات بعض الشخصيات الفرنسية قد أشعلت لهيب التوتر وحرضت المطلب الجزائري على مزيد التعنت والتشبث ونقصد تلك التصريحات التي جاء فيها أن الجزائر كانت على امتداد فترة الاستعمار منطقة فرنسية وأنها قبل ذلك كانت تحت «الاستعمار» العثماني.. وهي تعليقات استفزازية تستهدف هوية الجزائر وتنكر عليها حقوقها.

والسؤال الذي قد يتبادر إلى الذهن هو ماذا يمكن أن تخسر فرنسا من الاعتذار الرسمي والحال أنها بحاجة إلى الجزائر وثرواتها الطبيعية ويصعب عليها التفريط فيها كمجال حيوي لصالح الولايات المتحدة.

في الحقيقة مسألة الاعتذار الرسمي لا تقف عند التصريح، ذلك أن حصوله ـ أي الاعتذار ـ يعني ظفر الجزائر بسيد الأدلة حسب اللّغة القانونية. ممّا يعني أن اعتذار فرنسا بشكل علني وصريح عن جرائم فترة استعمارها للجزائر ستنتج عنه تبعات لا تنتهي وسيقوي الاعتذار رسميا موقف الجزائر لدى محكمة القانون الدولي، وهكذا يُصبح ملف الاعتذار بوابة واسعة لفتح ملفات أخرى. كما أن رضوخ فرنسا للمطالب الجزائرية يترتب عليه تشجيعات غير مباشرة لبقية مستعمراتها كي تسير على المنوال الجزائري.

ففي هذا السياق المُعقَّد والمفتوح على سيناريوهات شتى من القضايا والنزيف المالي المتوقع، نفهم موقف فرنسا القائم أساسا على المخاوف والاستحقاقات المالية المنتظرة أكثر منه تعنتا مجانيا خصوصا أن الرئيس الفرنسي الحالي نيكولا ساركوزي براغماتي ومن صالح فرنسا كسب الجزائر إلى صفها ومشاريعها.

وفي مقابل هذه التعقيدات نجد أن الواقع يفرض على الطرفين الفرنسي والجزائري مجموعة من المصالح المشتركة المتشابكة بطبيعتها والتي تجعل من سيناريو القطيعة الشاملة أمرا غير واقعي.

لذلك فإنه من منظور الواقعية أيضا يكون الطرف الأضعف في هذا التوتر هو الطرف الفرنسي وهي نقطة من المفروض أن تُحفّز النخبة السياسية الفرنسية الحاكمة على مراجعة طريقة إدارتها لملف الاعتذار عن جرائمها الاستعمارية بشكل يمتص شيئا من صلابة الموقف الجزائري ويقدم له بدائل عملية تجلب المنفعة للجزائر.