التصدي للمصاعب

TT

في أعقاب حادث إطلاق النار في قاعدة «فورت هود»، تفحص بعض المعلقين الأضرار التي لحقت بالجيش الأميركي جراء حربي العراق وأفغانستان. بيد أن القليلين منهم تطرق إلى الحديث عن القاتل المزعوم، ميجور نضال حسن، باعتباره مثالا متطرفا على ما يمكن أن يحدث لقوة عسكرية منهكة تحت وطأة ضغوط بالغة.

في الواقع، تنطوي هذه الصورة لقوة عسكرية مصدومة منهكة على تضليل. بالتأكيد، يعاني الجيش والقطاعات الأخرى من ضغوط جمة بسبب متطلبات الحرب والقتال، لكن الأمر اللافت للانتباه بشدة من وجهة نظري اليوم ونحن نحتفل بـ«يوم المقاتل» مدى العافية التي تتمتع بها المؤسسة العسكرية رغم كل ما تحمله على كاهلها من أعباء جسام من أجل مصلحة هذا الوطن على مدار الأعوام الثمانية الماضية.

مع خوضها نمطا جديدا ومربكا من الحروب، تمكنت المؤسسة العسكرية من استخلاص دروس جديدة والتكيف معها، فبدلا من الشكوى من المشكلات التي يعانونها، تمكن الجنود من التوصل إلى سبل لحلها.

حقيقة الأمر أن المؤسسة العسكرية الأميركية ربما تشكل الجانب الأكثر صلابة من المجتمع الأميركي في الوقت الراهن. والواضح أن الجنود في وضع أفضل عن الطبقة السياسية التي أرسلتهم إلى الحرب والقيادة الاقتصادية التي أساءت إدارة الاقتصاد. (وأود منح ذات الدرجة من التقدير الرفيع إلى المدنيين الشباب الذين خدموا وضحوا في قطاعات شاقة ـ مثل «فيالق السلام» والمتطوعين الطبيين الذين التقيت بهم بالخارج).

عبر كل المصاعب التي واجهتها، نجحت المؤسسة العسكرية في الإبقاء على رباطة جأشها. وينبع هذا الشعور بالتوازن في جزء منه من حقيقة ارتباط الجنود بأسس المجتمع الأميركي وجذوره. ويتضمن ذلك المدن الصغيرة التقليدية الواقعة في الجنوب والغرب الأوسط التي يجري في عروق أبنائها عشق الخدمة العسكرية. كما يضم المجتمع الأميركي في المناطق الحضرية الكثير من العائلات الكادحة النشطة من أصول لاتينية وأفريقية التي أنجبت بعض أفضل الجنود الذين عرفتهم.

لقد أسعدني الحظ بالعيش في كنف أسرة عسكرية عندما زرت مؤخرا القيادة المركزية الأميركية لأسبوعين ونصف الأسبوع. خلال هذه الفترة، استمعت إلى محادثات جرت بين أفراد عسكريين حملت الدعابات والفكاهة السوداء لجنود يحاولون استخلاص أفضل ما يمكن من موقف عسير. إلا أنه ساد بينهم كذلك شعور بالرضا إزاء خوض القتال في هذه الحروب الشاقة، الأمر الذي يمر من دون توجيه شكر لهم في بعض الأحيان. ورغم أن الجنود لا يتباهون بما حققوا، فإنهم يحملون بداخلهم مشاعر فخر حيال إنجازاتهم. وقد زرنا نحن الصحافيين جميع مناطق التوتر ـ العراق وأفغانستان وباكستان. وفي محطة كنا نتوقف بها، كان قائد القيادة المركزية، جنرال ديفيد بيترايوس، يطلب من الأفراد الذين جرى نشرهم لمناطق قتال مرتين التقدم للحصول على ميداليات تقدير. دائما، ما كانت الدعوة تثمر اصطفاف أعداد غفيرة من الجنود في صفوف طويلة. ولا يسعك حينها سوى التعجب حول عدد الأزواج والأطفال الذين خلفهم هؤلاء الجنود وراءهم على أرض الوطن، والتساؤل حول عدد الزيجات التي انهارت جراء هذا الوضع، ولا بد وأن تتملكك الدهشة إزاء قدر الشجاعة التي يتميز بها الرجال والنساء الذين عادوا إلى خط النار مرة بعد أخرى.

لقد عاينت الكثير الذي ينقل معاناة عمليات النشر العسكرية طويلة الأمد والمتكررة. من بين الصور التي لا تزال عالقة في ذهني صورة لضابطة تتحدث مع أطفالها عبر شاشة كمبيوتر من داخل قاعدة جوية في الخليج، في محاولة منها لتدبير شؤونهم في البيت والمدرسة. وعكفت على كتابة عبارة «ماما ستعود إلى المنزل قريبا»، لكن ربما لا يزال يفصل بينها وبين العودة إلى بيتها شهور عديدة.

وكانت هناك صورة أخرى لضابط في الجيش جرى إرساله إلى العراق وظل به على مدار 36 أسبوعا مستمرة، وهي فترة طويلة بدرجة يتعذر تصديقها. وعلى متن طائرة طراز «سي 17»، فتح حقيبة تعج بخطابات لم يرد عليها بعد وفواتير لم يسددها وبعثرها أمامه.

أما أكثر الوحدات التي التقيتها شجاعة فكانت «حرس مينيسوتا الوطني»، التي يشتهر أعضاؤها باسم «الثيران الحمراء». قابلت هؤلاء المدنيين ـ الجنود في البصرة في العراق، حيث تحملوا مسؤولية القطاع الجنوبي بأكمله من البلاد. وشاهدت بيترايوس يلقي فيهم خطابا حماسيا حول أهمية العمل مع قوات الأمن العراقية في الوقت الذي تعود قوات أميركية أخرى إلى الوطن. أما اللحظة التي تفارق ذهني فهي عندما صاح الجنود من الرجال والنساء داخل القاعة الواقعة على مسافة 7.000 ميل من الوطن قائلين «هوا»، وهي اختصار يستخدمه أبناء الجيش لعبارة «علم وجاري التنفيذ».

بالنسبة للصحافي الذي يرافق القوات العسكرية، يخلو الأمر تماما من الرفاهية، حيث تفرض الظروف الإقامة في غرف تضم أكثر من الأفراد والنوم على أسرة غير مريحة بجانب رفاق في الغرفة يغطون في نومهم مصدرين أصواتا مزعجة، والجلوس في قاعات ضخمة لتناول الطعام تقدم كميات بالغة الضخامة من الطعام كل صباح، يتنوع بين البيض ولحم الخنزير والمقانق.

ويضطر الصحافي إلى ارتياد مراحيض خارجية. (لن أنسى قط كلمات مكتوبة بخط اليد شاهدتها منذ سنوات قليلة ماضية داخل قاعدة بمنطقة ما في العراق، تحمل سهما يشير إلى فتحة المرحاض وتقول: «عثرت على أسلحة الدمار الشامل العراقية»).

* خدمة «واشنطن بوست»

خاص بـ«الشرق الأوسط»