الصحافة والانتخابات

TT

مهرجان القاهرة للإعلام العربي أحد أهم الملامح الصحفية، ليس فقط بين للناطقين بالضاد، بل بدأ يتخذ أبعادا عالمية لضرورة تاريخية.

المرحلة التي بدأت بعدوان القاعدة على أمريكا في سبتمبر 2001 (وأطلق عليها أسماء أشهرها صدام الحضارات) فتحت شهية المستهلك الإعلامي في الغرب، للاطلاع من نافذة «الآخر» سواء كان مجرد الاطلاع المحايد على ما يدور بعقل «الآخر» أو يعتبره عدوا (لا بد أن يكون كذلك في نظر أسرة تلميذة فرنسية جاءت في رحلة مدرسية إلى القاهرة فصرعتها قنبلة إرهابي، أو في نظر أسرة ممرضة إنجليزية قضت عقودا تضمد جراح العراقيين فلقيت مصرعها على يد مختطفيها باسم المقاومة).

حتى نواب برلمانات البلدان الديموقراطية يعتمدون اليوم على ملخص ما تنشره صحف، وتبثه فضائيات عربية، يترجمه باحثوهم لمحاولة فهم هذا الآخر.

المعتدلون يحاولون إقناع العالم بأن زعماء عصابات الإرهاب كأسامة بن لادن وأيمن الظواهري هم مجرد أقلية اختطفت الدين، فتتكاتف خيارات بث الفضائيات العنترية مع الممارسات اليومية اللافتة للنظر للمسلمين لإقناع الغربيين بأن المسلمين يحاولون فرض ثقافة (بصرف النظر عن تقييمها) دخيلة على مجتمعات مستقرة ثابتة على ثقافة أوروبية علمانية ذات أساس أخلاقي مسيحي.

والأحداث التي أعقبت نشر مجلة دانيماركية مغمورة في مدينة لم يسمع بها أحد، تحولت إلى أزمة عالمية ومظاهرات وإراقة دماء، على يد من لم يمتلكوا من المعرفة ما يمكّنهم من التفريق بين علَم الدانيمارك وعلَمَي السويد والنرويج فتعرضت سفارتا البلدين للحرق والنهب في عواصم إسلامية وعربية.

وأسوق المثال ليس كتصرفات لا مسؤولة لبعض الإعلاميين المسلمين، بل كدليل على تدني المستوى المهني لبعض الزملاء في وسائل الإعلام، المقروءة أولا ثم الفضائيات ثانيا في إثارة الزوبعة.

فالذي بدأ بإثارة الانتباه إلى الرسومات في مجلة محلية وليست على المستوى القومي الدانيماركي يقرؤها بضعة آلاف، ومن غير المحتمل أن يزيد عدد ما يطّلع عليها من مسلمين على أصابع اليد الواحدة وهم غالبا من النوعية العلمانية النظرة الذين غالبا من لن تدفعهم الرسوم حتى إلى الاحتجاج بمكالمة تليفونية أو بخطاب لرئيس تحرير المجلة، ناهيك عن الخروج في مظاهرة.

ولو كان الزملاء الذين نقلوا القصة بإثارة ومبالغة هائلة لقراء العرب، قد التزموا أبسط القواعد المهنية وهي التحقق من أكثر من مصدر (مدرستنا الصحفية البريطانية تعتمد على ثلاثة مصادر لا يعرف بعضهم بعضا ولا تجمعهم مصلحة مشتركة في إطلاق الخبر)، بما فيها رئيس تحرير المجلة، والرسام، واتحاد الصحفيين، لعرفوا أن الذي أشعل فتيل الأزمة هو سفير بلد إسلامي عربي كبير ـ لم يُعرف عنه التدين ولا تحمل جبهته «الزبيبة» الشهيرة التي يزداد قطرها بارتفاع رتبة التدين الظاهري ـ فجمع السفراء العرب والمسلمين، وأثاروا احتجاجا مع وزارة الخارجية الدانيماركية التي لا تعرف شيئا اسمه الرقابة على الصحف.

واحتجاج مجموعة سفراء لدى وزارة في بلد ديموقراطي يصبح خبرا تنشره صحف البلاد، وتنبه أمام مسجد، ينافسه أمام آخر على الحصول على التمويل من بلدان إسلامية لبناء مراكز ثقافية وتحسين مراكزهم سواء الاجتماعية أو السياسة أو المادية وجمعوا وفدا طاف العالم الإسلامي لاستفزازه.

وأتحدى أن يتقدم زميل من وسائل الإعلام العربية التي أثارت مشاعر الناس فخرجوا متظاهرين ، ليثبت لقراء «الشرق الأوسط» أنه سافر إلى الدانيمارك وقام بتحقيق شامل وواسع في أصل الحكاية ومصدرها قبل أن يكتب أو يقدم برنامجا عن رسوم الكاريكاتير موضع الأزمة، ليقدمه للقراء أو المشاهدين كتحقيق موضوعي محايد عن موضوع ومن زاوية أنه جديد لم يختبره من قبل.

لو وجدت هذا الصحفي أو الصحفية فسأذهب إلى مقره على نفقتي الخاصة وأحاوره وأنشر التحقيق لقراء «الشرق الأوسط». دارت الأفكار برأسي في أثناء مشاركتي في ندوة الإعلام والانتخابات التي أدارها باقتدار الزميل عبد اللطيف المناوي، بمشاركة خمسة آخرين من الزملاء كنت والصديق صالح القلاب العجوزين بينهم والباقي من جيل الشباب.

الحضور في الاستديو لم يكن جمهورا عاديا أو ما تسميه مدرسة صحافة السوق الرأسمالية الحرة بـ«المستهلك الإعلامي» وإنما من المتخصصين من مذيعين ومذيعات ومقدمي ومقدمات برامج ومخرجين سواء من وسائل إعلام خاصة أو من القنوات المملوكة للدولة.

ظهرت بالطبع التحديات التي تواجه صحفيي البلدان العربية التي تتفاوت فيها درجة تسامح الأنظمة مع الصحفيين الذين يحاولون بالكاميرا كشف نزاهة الانتخابات من عدمها، وأيضا تتفاوت فيها درجة تسامح حاشية كل مرشح أو طائفته أو عشيرته – خصوصا في نظام القوائم ـ مع الصحفي الذي يحاول تحسس الدوائر الساخنة، والذي أحيانا يبلغ حد الاعتداء عليه.

مثال تعامل الإعلام العربي مع رسومات كاريكاتير المجلة الدانيماركية كانت نموذجا لتعامل الأغلبية من الإعلام العربي مع الانتخابات، مع قصور آخر وهو الوقوع في الفهم الخطأ بأن الديموقراطية هي مجرد الانتخابات، وليس أن الأخيرة هي حالة واحدة من نظام وجو ديموقراطي عام أحد أركانه الرئيسة هو السلطة الرابعة، التي تقدم للشعب تقريرا عن أداء الحكومة التي تعاقد معها في صناديق الاقتراع، ولو جاء التقرير سلبيا يفصل الناخب الحكومة من العمل في صندوق الاقتراع.

وكان هناك اتفاق على أن الفضائيات العابرة للحدود أوجدت للمرشح الذي لا يملك برنامجا حقيقيا للتعامل مع مشكلات الناخب، ملاذا للفرار إلى شعار عاطفي «كدعم الشعب الفلسطيني» أو «الدفاع عن الإسلام» ضد هجمة صليبية أو «طرد الأمريكان من العراق» لأنها تعرض الانتخابات كفرجة على كل من يتكلم العربية ليس من المحيط إلى الخليج فحسب، بل لعرب المهجر في الأمريكتين؛ وبالتالي نادرا ما تجد صحافة، من أي نوع، تمسك بتلابيب المرشح السياسية، وتقوم بتمشيط كل عبارة في برنامجه الانتخابي ومناقشته في كيفية تنفيذه ومصادر ميزانية التنفيذ، هلي هي ضرائب إضافية، أم بيع أصول مملوكة للشعب وبالتالي يفقد الناخب هذه الأصول.

وفي رأينا المتواضع أن تدريب الصحفيين العرب، سواء في صحف الحكومة أو المستقلة، على كيفية تغطية الانتخابات قبل يوم الاقتراع أي في أثناء الحملة بإدخال المرشح، أو ممثل حزبه امتحان يضع الناخبون في الدائرة أسئلته ومن إجاباته ينجح بالنجمة أو «بكحكة» السقوط الحمراء، أهم كثيرا من أجهزة رقابة أداء الصحافة وإصدار قوانين جديدة ومواثيق شرف، وهنا تكون تغطية الصحافة للانتخابات عين الناخب الفاحصة للبضاعة المعروضة، وليس مجرد فرجة على مولد يوم التصويت، سواء بنجاح العملية أو بتزويرها، تماما مثل تحول صور رسام كاريكاتير غير معروف إلى «فرجة» كان المسلمون ضحايا أنفسهم وصحافتهم فيها.