الحرس الثوري ومذهبة العلاقات

TT

شكلت الثورة الإيرانية على يد آية الله خميني منعطفاً مهماً في العلاقات العربية الفارسية، وأضفت أبعاداً جديدة لتلك العلاقة، وما إعلان الخميني في وقتها من أن الهدف الرئيسي للثورة هو تحرير القدس ومحاربة الاستكبار العالمي والقضاء على إسرائيل إلا إرهاصاً للسلوك السياسي الإيراني المستقبلي المرتبط بذلك التحول. وقد تركزت جل التحليلات والدراسات الأكاديمية بعد قيام الثورة، وخاصة الغربية منها، على تحليل أبعاد السياسة الخارجية الإيرانية المستقبلية مع الغرب. ونادراً ما تم تحليل أثر ذلك الإعلان على المجتمعات العربية وبنيتها السياسية وعلاقتها التاريخية بالشعوب الإيرانية. ويأتي هذا المقال كمحاولة متواضعة، بعد مرور أكثر من ثلاثين عاماً على قيام الثورة الإيرانية، سعياً لإثارة النقاش حول ذلك ووضع الفرضيات التي قد تسهم في فهم هذه الثورة، ويتلخص ذلك بطرح فرضية ومحاولة اختبار صحتها، عن طريق طرح السؤال التالي: ما هو تأثير الثورة الإيرانية في الركائز الأساسية في العلاقة الدينية والتاريخية بين المجتمعات العربية والفارسية؟ وهل أسهمت الثورة في تعزيز هذه العلاقة؟.

لا تزال صورة الثورة الإيرانية ماثلة في ذهن العديد من أبناء جيلي من خلال تلك الصور التلفزيونية لثورة شعبية عارمة تمكنت من إسقاط نظام الشاه، حاملة شعار الإسلام وتحرير القدس والموت للشيطان الأكبر وإسرائيل، وحظيت تلك الثورة بقبول أكثر لدى الحركات الإسلامية السياسية أو ما يعرف بالإسلام السياسي وغيرها من الحركات السياسية الأخرى التي تتصادم أفكارها مع الحكومات العربية. واستطاعت هذه الحركات أن تدغدغ مشاعر المجتمعات العربية بكافة طوائفها، فوقفت تلك المجتمعات بجانب الثورة الإيرانية التي تزعمها الملالي، متسامية فوق البعد الطائفي لها، أملا أن تكون هذه الثورة مفتاحاً لتخليص القدس الشريف من أحضان الصهاينة، تلك هي الحالة الجماعية العامة في المجتمعات العربية. أما بالنسبة للنظرة الفردية لشرائح معينة وكبيرة من تلك المجتمعات، فأمثلها في شخصي، فقد تابعت الثورة الإيرانية أثناء تواجدي في الولايات المتحدة الأمريكية، وذلك من خلال الكتابات والدراسات التي تعدها مراكز البحث المهتمة بالشرق الأوسط، حيث كانت جل هذه الدراسات والكتابات تدور حول الإسلام وخطره على الحضارة الغربية، وما ثورة الخميني إلا الحلقة الأولى في مسيرة هذا الخطر القادم على الغرب.

وقد أجبرني هذا التوجه العدائي نحو الإسلام في الأوساط الغربية، على البحث في الجوانب المشتركة، بيننا نحن المسلمين، من عرب وفرس، في محاولة لإيجاد قاعدة مشتركة، أستطيع أن أنطلق منها في حديثي مع زملائي الطلبة الأمريكان وغيرهم من الجنسيات غير العربية الأخرى المتواجدة معي في الجامعة، عند الحديث عن الثورة الإيرانية، بعيدا عن شعاراتها السياسية، في محاولة لإيضاح الصورة الحضارية للإسلام وعلاقته بشعوب العالم بما فيها الشعوب الغربية، سواء كان ذلك أثناء النقاشات، داخل قاعات المحاضرات، أو من خلال المداخلات في الندوات التي تقيمها الجامعة، عند استضافتها لمفكرين، ومحللين سياسيين غربيين وشرق أوسطيين، لمناقشة الظاهرة الإيرانية، وقد استطعت أثناء تلك الفترة، أن أكوّن قاعدة معلومات عريضة، حول القضايا المشتركة بيننا نحن العرب والفرس، والتي لو تحدثنا عن الماضي منها والذي يجمع بين الثقافتين العربية والفارسية لربما احتجنا إلى كتب بل وإلى مجلدات.

فتداخل الثقافتين واسع ومتعدد، فهناك تداخل وتزاوج بين الثقافتين تفاعلتا فيه تفاعلا كبيرا، مزج بينهما وأنتج من العلوم والآداب الكثير مما استفادت منه الحضارات الأخرى.

فالقاسم المشترك الذي يجمعنا هو حضارتنا الإسلامية، فهناك مزج بين الدين والدولة، وهناك في بلداننا، من يتكلم الفارسية وقد هاجر لأسباب معيشية أو سياسية من الضفة الإيرانية، وهناك في الضفة المقابلة الإيرانية من يتكلم العربية وعاش هناك لفترات طويلة وهناك علاقات اقتصادية توغل في القدم.

فالحضارة الإسلامية هي الجوهر والمشترك العام، الذي يربط بيننا وبين الشعوب الإيرانية، مع تعدد الهويات لدينا ولديهم، أي إن هناك اختلافا في الفروع وتوحدا في الأصول، فالحضارة الإسلامية هي العنصر المشترك والدائم بيننا على مر التاريخ.

وبعد مرور سنوات من اندلاع الثورة، تغيرت لديّ كما لدى معظم المجتمعات العربية، تلك الصورة المثالية للثورة الإيرانية، والجوانب الدينية والحضارية التي ظننا أنها تجمعنا بها. فقد بدأت بعض المنغصات السياسية المذهبية، التي اختلقها النظام الحاكم في إيران تظهر على السطح، فألقت بظلال كثيفة على تلك العلاقات الثقافية التاريخية المشتركة، نتيجة لذلك التحول، بل انكشف الوجه الحقيقي للثورة الإيرانية، ذات السمة الطائفية العنصرية، والمتشددة، التي تتحصن فيها. وكأن النظام الحاكم في طهران، وبعد مرور ثلاثين عاماً من قيام الثورة، والتي باركتها الشعوب العربية في وقتها، أرادت غدر شعوب المنطقة العربية وإقحامها في صراعات طائفية، من خلال إيجاد بؤر سياسية مسلحة، تتدثر بوشاح الطائفية البغيضة في مجتمعاتها، تحقيقاً لسياسة الفوضى الخلاقة التي أرادها لها أعداء الإسلام، تغذيها مصالح طائفية فئوية داخل المؤسسة الحاكمة في طهران ممثلة في الحرس الثوري (الحزب الحاكم في إيران)، والتي ترى أن من مصلحتها بذر الفرقة الطائفية بين شعوب المنطقة، ومذهبة العلاقات مع دولها، لتبقى الهيمنة الداخلية لها، داخل المؤسسة الحاكمة في إيران. وكذلك العمل على رفع مستوى قدراتها التفاوضية مع الغرب، لتحقيق مكاسب إقليمية على حساب دول المنطقة وشعوبها. وقد لعب الحرس الثوري هذه اللعبة، باقتدار أثناء الحرب على أفغانستان والعراق وأثناء الأزمة اللبنانية، وفي الحرب الدولية على الإرهاب. وها هو الآن يعيد بث نفسُه الطائفي المقيت في المنطقة ومن خلال جماعة الحوثيين في اليمن. ليضرب مرة أخرى، بتلك العلاقة التاريخية بين الشعوب العربية والفارسية عرض الحائط مقابل طموحات توسعية في المنطقة العربية لخدمة أجندات خفية.

ولا أظن أن هناك نظاما في العالم كله، استطاع طوال ثلاثين عاماً أن يغيب وعي الرأي العام في العالم العربي والإسلامي، وينسج الأكاذيب تلو الأكاذيب مثل النظام الحاكم في إيران (الحرس الثوري). ذلك النظام الذي طالته تهم المجتمع الدولي، من قمع لمواطنيه، ورعاية الإرهاب، والتدخل في الشؤون الداخلية للدول، بل إن أقل واحدة من تلك التهم بحجم زلزال مدمر وأوضح من الشمس في رائعة النهار. ورغم ذلك كله يستطيع هذا النظام وبقدرة قادر الاستمرار في تنفيذ أجندته المتعلقة بالعالم العربي فقط! وعلى مرأى من المجتمع الدولي!!. كما استطاعت أبواقه الإعلامية الموجهة لشعوبنا وفي غفلة منا باستغلال التناقضات الموجودة في هذه الدول، أن تقيم زفة تلو الأخرى يتبارى فيها خطباؤه، ومأجوروه من بني جلدتنا، من الحزبيين، بكافة طوائفهم ومشاربهم، في تغييب وعي شعوبنا منذ قيام الثورة وإلى وقتنا الحاضر، وبغباء سياسي مؤسف، (على الرغم من انكشاف المستور). بشعارات حول تحرير القدس ومحاربة الاستكبار العالمي، والموت لأمريكا وإسرائيل، بل إن كبيرهم الذي علمهم السحر، قد أخبرنا وقبل ثلاثين عاماً، بأن تحرير القدس يبدأ من بغداد، وبعد أن أسقطوا بغداد وأصبحت تحت سيطرتهم جاءنا كبيرهم الآخر ليذكرنا اليوم بأن تحرير القدس لم يعد عن طريق بغداد، بل عن طريق لبنان واليمن (بل ويخرج علينا قبل أيام فقط وفي سابقة تاريخية خطيرة، أحد كهنة الحرس الثوري مطالبا بتحويل القبلة من مكة المكرمة إلى النجف!)، وهكذا دواليك، إلى أن يتم إسقاط دولنا الواحدة تلو الأخرى، تحت ذريعة وأوهام نسجوها في وجداننا السياسي والديني، حول تحرير القدس ومحاربة الاستكبار العالمي، والقضاء على إسرائيل. وهم الذين في واقع الحال يشاركون هؤلاء في مخططاتهم كل ليلة لتحقيق أحلامهم المشتركة!.