أول تكهن بالجوال

TT

رن هاتفي، أو بالأحرى أصدر صوتا موسيقيا على نغمة كورية، وأنا في قلب الصحراء، السماء من فوقي والفلاة من حولي وليس في المدى سوى مدى آخر بلا نهاية. ومع ذلك ها هو الهاتف الذي أصبح اسمه جوالا أو نقالا، يرن من إحدى زوايا الأرض. مفاجَأ أبداً. لقد أصبح هذا أمرا قديما، في البحار وفي الصحاري وفي البراري وفي الأدغال.

وإذا لم يكن مفاجئا ولا جديدا فلماذا الكتابة عنه إذا؟ ثمة حكاية لا تصدق. عدت ذلك المساء إلى الفندق ووجدت نسخة من مجلة «الجامعة» التي أصدرها لبنانيون في مصر. وكان تاريخ النسخة شهرا ما من العام 1899. أي قبل مائة وعشر سنين. وفي العدد مقال عن المشاكل التي تتعرض لها أعمدة التلغراف الخشبية التي تربط إلى أعاليها أسلاك الهاتف.

ويقول الكاتب إن طير القبرة الصغير يقرض الأسلاك، وإن الدببة التي تحب العسل يخيّل إليها عندما تسمع الخبب أن في الأعمدة أقفار نحل فتروح تحطم الأعمدة وتقلعها بحثا عن الشهد. ويمضي الكاتب في تعداد أنواع التسوس. ولكن المسألة ليست هنا. المسألة أنه يختم مقاله ضاحكا ساخرا ويقول إن الحل (المستحيل) هو في اختراع هاتف بلا أسلاك!

ها أنا أضحك من نفسي في «حفر الباطن» حيث رأيت في البعيد ثعلبا كئيبا يبحث عن أي وجبة ممكنة. وهذا المسكين يفضل الدجاج على أي شيء آخر لكن أقرب «كنتاكي» عليها صورة الكولونيل الأبيض الشعر تقع على ألف كيلو من هنا. وقد سمَّت العرب الدجاج دجاجا لكثرة ما «يدج» في الأرض. أي لكثرة ما يحرك ويقاقي. أو كما قال عاصي الرحباني في هجاء الشاعر جورج جرداق:

يا دجاجة قاقي قاقي

على جورج ابن جرداق

وبرغم كل دجيجه لا يصل الدجاج إلى هذه البقعة من الأرض. ولذا يبقى الثعلب حزينا بلا احتفالات ولا أفراح. وقد يخطر لك أن الفرح للصقر المطارد للحباري. غلط. كل ما يفعله هذا الانقضاضي السريع أنه ينقض على الحبراء فيقتلها ويحملها ويطير بها إلى سيده. هكذا يفعل كلب الصيد أيضا: يحمل الطريدة مزهوا ويعدو إلى سيده ويرميها أمامه وهو يهز ذنَبه ويحرك رأسه ويطلب مشاهدين يصفقون له.

لم أكن أظن أنني سأحزن لمنظر ثعلب جائع. لكن الشفقة تحرك فينا المشاعر حيال أي كائن. يشفق على الدجاجة من الافتراس وعلى الثعلب من الجوع وعلى الحمل من الذئب وعلى الذئب من شتاء القطب الطويل. وعبثا تحاول الغابة أن تعلمنا أخلاقها وآدابها. عبثا.