.. وبالعربي المليح

TT

نويت قبل سنوات، أن أخصص زاوية أسبوعية لشؤون اللغة، ما قرأت عما يليق بها، وعما لا يليق. ما يمكن أن يضاف إلى مصارف القراء وما يصلح للحذر العام من الأخطاء. ما يفيض من جمالياتها وعبقرياتها ودلالاتها وحول ما يسيء إليها من إهمال. وقد خالفني يومها في ذلك الرئيس الراحل أمين الحافظ، أحد نبلاء العربية وحفَّاظها والهائمين بلطفائها. وكانت حجته، أنه إذا اختلف كاتب اليوميات إلى شؤون اللغة، فذلك دليل ضعف أو نضوب، يومئ بأن لا جديد لديه. وقال رحمه الله، بذلك يتحول الكاتب إلى معلّق، على نسق قالوا ونقول، أو أغفلوا فنذكر، أو أخطأوا فيما «لسان العرب» أورد الصحيح على كذا وبناه على كيت.

وكان ضعفي بأبي رمزي كثيراً، في قواعد اللغة، وأعراف لبنان، ومعارف الحياة الاجتماعية، فما عارضت ولا دافعت ولا دفعت بحجة ولو على سبيل المحاججة. وصرت أتوقف عند مواضع العناوين اللغوية، هناتها أو جمالياتها، توقف السائل على الدروب الطويلة. وقد فوجئت المفاجأة الحسنة يوم الاثنين الماضي بعد ظهور زاوية «بالعربي الكسيح». كانت الردود كثيرة وضافية، أكثر مما في أي موضوع آخر. وكان إجماع ساحر في الغيرة على اللغة، ناقلة أو منقولا عنها، صافية أو معرباً بها.

وجاءتني الهدية من بلد عربي كبير اتصل وزير في حكومته يريد معرفة ناشر ومترجم الكتاب الذي أشرت إليه ونقلت عنه الفقرات السنسكريتية والصينية والهولاكوية المطبوعة بأحرف عربية، حفظكم الله. وزاد في المفاجأة أن الوزير ليس وزير التربية، ولا الثقافة، ولا الإعلام، بل هو وزير التجارة.

وعندما طلبتني سكرتيرته بادئ الأمر اعتقدت أن التقدم في السن طال حاسة السمع أيضاً، فاستوضحت بخجل: هل معاليه وزير الثقافة؟ وكأنما أدركت طبيعة المفاجأة في العالم العربي الذي يقرأ فيه كل 12 ألف كائن بشري كتاباً واحداً كل 12 شهراً، بالتكافل والتضامن وتماسك الأيدي في رقصة «هللي يا عروبة»، فقالت تخفف عني وتلطف وقع اللامتوقع: وزير التجارة، سيادتك.

الثقافة ليست اختصاصاً. هي بحر مفتوح ومحيط مفسوح، يغرف منه من يغرف، كمن يغرف من وسع المعرفة أو وسع الرحمة. والمثقف هو الذي يصنع الحقيبة. لذلك غازي القصيبي، شيخ المثقفين والشعراء وأهل النثر، أبدع في التخطيط وبرع في الإدارة وتجلى في وزارة العمل. وعندما يداعب بعضنا أحياناً عقاله فمن نوع التوكؤ على سعة العقول وسمو الصدور.