أخطر الجدران

TT

نادرا ما حظيت ذكرى باحتفالات وكتابات وخطابات واهتمام غربي واسع النطاق كما حظيت الذكرى العشرون لسقوط جدار برلين في التاسع من تشرين الثاني الحالي. فقد أحيا عدد غير قليل من قادة الغرب هذه الذكرى في برلين وألقى العديد منهم الخطب الرنانة كما تبارت وسائل الإعلام الغربية والعربية والدولية بنشر المقالات والتحاليل، وكانت الذكرى موضوع غلاف «الإيكونومست» و«النيوزويك» وربما عشرات، بل ربما مئات المجلات في العالم. وإن دلّ هذا على شيء فإنما يدل على استمرار ازدواجية المعايير في الثقافة الغربية، والتي تعتبر أي حدث يعنيها حدثا دوليا بينما لا يمكن أن ترقى أحداث مماثلة تماما، لكنها وقعت في مناطق أخرى من العالم، إلى المستوى «الدولي» مهما كانت قيمتها الحقيقية والإنسانية. ووصل الاهتمام بهذا الحدث درجة ربما دفعت الكثيرين أمثالي للتساؤل: لماذا لا أشعر بالحماس ذاته تجاه هذه الذكرى؟! ولماذا لا أدرك أبعاد النتائج التي يتحدث عنها كل هؤلاء القادة والكتاب وقادة الرأي والمحللين؟ حتى إن الساسة المتحفظين عادة في تصريحاتهم قد أطلقوا العنان لمخيلتهم، بحيث أن الفقر في إفريقيا أصبح «مجازا» جدارا يجب إزالته وأصبحت القيود في منطقة ما والدموع في أخرى والألم في ثالثة جدران برلين يجب إزالتها، بل حتى الألم الشخصي وانعدام الأمل كلها تم تشبيهها بجدار برلين، ومن هنا كانت الدعوة لإسقاطها جميعا. بل إن أحد الزعماء اعتبر سقوط جدار برلين دعوة لمحاربة الاضطهاد، بينما اعتبرت وزيرة خارجية الولايات المتحدة هيلاري كلينتون «أن جدارا حقيقيا قد سقط، ولكنْ هناك جدران أخرى قائمة علينا أن نتغلب عليها» مضيفة: «إننا سنعمل معا لإنجاز ذلك».

ولكن الغريب في الأمر، هو أن أحدا من كل هؤلاء الساسة والقادة والمحللين والمعنيين بالشأن العام لم يستطع أن يرى جدارا يلتف كالأفعى في الأراضي الفلسطينية المحتلة، لأنه أغمض عينيه بجدار أسمك من جدار برلين، رغم أن محكمة العدل الدولية قد اتخذت قرارا منذ خمس سنوات بضرورة وقف بنائه وهدم ما بُني منه وتعويض الفلسطينيين عن الأضرار التي لحقت بهم بسببه، كما أن أحدا من كل هؤلاء، لم يلاحظ أن هذا الجدار يفصل الطفل عن مدرسته، والمزارع عن مزرعته، والأسرة عن أقربائها، ويمزّق النسيج الاجتماعي للمجتمع الفلسطيني، ويمثل أحد أشدّ أساليب القهر والظلم والاضطهاد التي تحلّ بشعب في القرن الواحد والعشرين. فقد تمّ المرور على آلام الشعوب من إفريقيا إلى بورما وزيمبابوي، أما آلام الشعب الفلسطيني، والتي لا مثيل لها في القرنين العشرين والواحد والعشرين، فلم يأت أحد من كل هؤلاء على ذكرها على الإطلاق، وفي الإعلام الغربيّ برمته. كما أن أحدا لم يذكر الجدران التي بُنيت في العراق بين المدينة والأخرى، وبين الطائفة والأخرى بحجة الأمن هنا والخوف هناك، كأن العالم العربي بشكل خاص، والعالم النامي بشكل عام، يقطن في ذاكرة لا تمتّ إلى ذاكرة واهتمام الغرب بصلة، مع أن جدران القرن الحادي والعشرين التي أشارت إليها وزيرة خارجية الولايات المتحدة الأمريكية هي جدران في غالبيتها صناعة أمريكية بحتة سواء في المفهوم أو في واقع الحال، أو في التمويل.

بعض هذه الجدران أتى على ذكرها الرئيس الأمريكي أوباما حين قال: «إن الحواجز التي تتحدى عالمنا اليوم لم تعد جدرانا من الأسمنت والحديد، بل إنها حواجز الخوف وعدم الشعور بالمسؤولية واللا مبالاة». والسؤال هو: عن أي عالم يتحدث الرئيس الأمريكي؟ عن العالم كله أم عن العالم الغربي؟ ذلك لأن عالم الفلسطينيين مثلا ما زال مسكونا بأبشع جدران وأشد حاجز عرفه التاريخ من الوحشية، بما في ذلك جدار الفصل العنصري المشيّد من الأسمنت والحديد، وكذلك جدران الاستيطان، والتطهير العرقي، والتهويد، والاحتلال، والعنصرية المقيتة التي وصلت حد إصدار الفتاوى اليهودية بقتل الرضع والأطفال، كما أن جدران ساكيس بيكو في العالم العربي مزقت أوصال أبناء الضاد الذين يشتركون بالتاريخ والجغرافيا والمصالح الاقتصادية المشتركة.

وأي محاولة للتقارب بين دولتين عربيتين تجمع بينهما الجغرافيا والتاريخ تواجَه بعداء شديد من قِبل غربٍ فتح كل الحدود بين أبناء شعبه حتى وصل طرفَي اليابسة عبر المحيط بحركة جوية وبحرية نشطة خلقت بينهم شعورا حقيقيا بالانتماء إلى عالم سياسي واقتصادي ومعرفي واحد.

الرئيس الأمريكي مُحِقّ في توصيفه لحواجز أخرى ليست من الأسمنت والحديد موجودة فعلا في عالم اليوم، بل إن هذه الحواجز قد تكون الأصعب على الهدم، وأحد أهم هذه الحواجز أو الجدران، هو الجدار الحقيقي الذي شيده بوش وتشيني والمحافظون الجدد بين الغرب والشرق، والتي خلقت من الحروب على غزة والعراق وغيرهما جدرانا من الجريمة والريبة والسجون السرية والتعذيب وتهويد القدس باسم مكافحة الإرهاب، والهوة هذه ناجمة عن مركزية غربية ولدت مع الإمبراطوريات الغربية التي كانت تحتل العالم ولا تغيب عنها الشمس ومع أنها تقلصت سياسيا وجغرافيا، فإنها ما زالت موجودة معرفيا وأخلاقيا. فالحدث هو ما يحدث في الغرب والاهتمام هو ما يجري في الغرب، والخبر هو الذي يخبرنا به الغرب، أما ما يجري في بقية دول العالم فقد لا تأتي على ذكره وكالات الأنباء، ولا يتوقف أحد السياسيين الغربيين عنده، خصوصا إذا كان لا يمسّ حياة أي شخص غربي، ولا يمتّ بصلة إلى اقتصاد غربي أو ظاهرة غربية. ولعلّ هذا هو أخطر الجدران الذي بدأت تتضح معالمه خصوصا بعد أحداث الحادي عشر من أيلول، وبعد احتلال العراق وأفغانستان، وبعد أن بلغ الصمت الغربيّ عن جرائم إسرائيل في فلسطين حدا يجب أن يندى له جبين العالم المتحضر.

هذا الجدار يفصل بين عالم يدّعي الحرية والديمقراطية ويمارس الغزو، والقتل، والاستيطان، وهدم المنازل، والتعذيب، ولا يرفّ له جفن وهو يستخدم المعايير المزدوجة كل يوم فيلقي الخطابات الرنانة عن حقوق الإنسان، بينما يسمح بقتل يوميّ لأطفال فلسطين.

هذا الجدار، دون شك، يزيد النفاق السياسي، والمعايير المزدوجة من ارتفاعه وامتداده في قارات وبلدان عدة، وهو الجدار الذي لا يراه الغرب إطلاقا، ولا يدرك خطورته على أمن واستقرار الكون برمته. وهذا الجدار لم يعد جدار الخوف فقط، بل أخذ يتحول إلى جدار النقمة وقد يصل حدّ الكراهية إذا ما يئست الشعوب المستهدفة من أي إمكانية لعودة الغرب إلى رشده والتزامه بالمعايير الأخلاقية التي يدّعي الحرص عليها والعمل وفق موازينها.

هل يمكن لهؤلاء القادة الذين اجتمعوا في برلين في التاسع من تشرين الثاني أن يزوروا غزة في فلسطين؟ وهل لهم أن يزوروا بلعين بدلا من برلين، ليروا بأم أعينهم ماذا يفعل أعتى جدران العنصرية في التاريخ؟ وهل يمكن أن يطّلعوا على ما يشعر به الفلسطيني الذي يُقتل والده، أو أمه، أو ولده أمامه، دون أن يُعتبر قتله خرقا لحقوق الإنسان؟ ودون أن تتجرأ دولة غربية على تطبيق معايير حقوق الإنسان على من يعتدي على حقوق العرب في فلسطين كل يوم وكل ساعة دون حساب أو عقاب؟

ولم يعد مقنعا لأحد أن يبرر الغرب مواقفه هذه بمكافحة الإرهاب، لأن نتائج هذه السياسات قد زادت من حدة القمع والإرهاب في العالم.

إن أخطر جدار في القرن الحادي والعشرين، هو جدار فقدان مصداقية الغرب، وانعدام الثقة بين الدول الغربية ودول العالم الثالث في آسيا وإفريقيا بحيث فقدت اللغة قدرتها على أن تكون صلة وصل بين الطرفين، لأن المسؤولين الغربيين قد أكدوا مرارا وتكرارا أن أعمالهم تناقض أقوالهم.

لقد ارتقى وعي الشعوب إلى درجة أنها أخذت تدرك ماهية هذه الجدران وأهدافها ومبتغاها، ولم تعد تقنعها المظاهر الاحتفالية والخطب الرنانة التي تزيد من فقدان المصداقية.

لقد كانت الذكرى العشرون لسقوط جدار برلين مناسبة كي يتحلى الغرب ببعض الصدقية في ملامسة حقيقة جدار الفصل العنصري في فلسطين، وجدران القمع والفقر والألم الناجمة عن احتلال عنصري بغيض، يحرم المدنيين الفلسطينيين من الحرية، والأرض. ولكنهم، وبتجاهل هذا الواقع الفاضح المرير، قد أضافوا جدارا آخر إلى الجدران التي تفصل عالمهم عن عالمنا في قلوب وعقول الملايين من شعوبنا، فهل يعنيهم هذا الأمر كي يستدركوه، أم أن الثقافة الغربية التي لا تزال تعاني من رواسب التعالي الاستعماري على الشعوب، تدق أطنابها في عقولهم وقلوبهم بحيث أن العالم بالنسبة إليهم هو العالم الغربي فقط، وإذا كانت هذه هي الحال، فمتى يبدأ العرب أيضا بالتركيز على عالمهم ووضعه على رأس أولوياتهم بعيدا عن التأثيرات والأحكام الغربية؟