في ظل «سلام» منوشهر متكي

TT

أدركت بالحزم والكتمان ما عجزت

عنه ملوك بني مروان إذ حشدوا

ما زلت أسعى بجهدي في دمارهم

والقوم في غفلة في الشام قد رقدوا

حتى ضربتــهم بالسيف فانتبهوا

من نومة لم ينمها قبلهم أحـــد

ومَن رعى غنما في أرض مسبعة

ونام عنها، تولّى رعيها الأسـد

(أبو مسلم الخراساني)

لا وجود في عالم السياسة لحقيقة واحدة. فهنا نحن أشبه بوضع أولئك الذين لم يسبق لهم أن رأوا فيلا ثم أدخلوا معه إلى سرادق مظلم وطلب منهم أن يصفوه.. كلّ من مكانه. فكانت النتيجة أن مَن لمس ذيل الفيل ظنه حبلا، ومن جسّ إحدى قوائمه حسبه شجرة، ومن حاول الإمساك بخرطومه تخيّله ثعباناً ضخماً، ومن نخزه طرف نابه خاله رمحاً.

وفي الشرق الأوسط،، بطبيعة الحال، تختلف المواقف تبعاً لاختلاف المواقع. فثمّة من ينطلق من أرضية قومية أو عصبية مذهبية فيبدو قلقاً على المصير العربي في مهب ريح الغطرسة الإسرائيلية والتواطؤ الدولي والطموح الإيراني والحنين التركي. وهناك مَن هو في موقع مختلف.. فلا يعترف بمركزية الهوية العربية، ويتذرّع بالهوية الإسلامية الجامعة ـ متجاوزاً المشاعر «الشعوبية» ـ ليبارك «الخيار» الإيراني لكل المشاكل وعلاج كل الأمراض الموهنة للأمة. وفي ركن ثالث، تقف جهات تزعم أنها «عروبية» الأصل والفصل لكنها «براغماتية» في الرهان على غير العرب لتحقيق أماني العرب وغاياتهم..

هذا غيض من فيض، وسط تعدّد الانقسامات وتفسّخ الهيكل الذي يوشك أن يسقط على رؤوس الجميع، وانهماك البعض بالتوريث، وحرص آخرين على إلهاء الناس بكل ما يصرف أنظارهم عن البؤس المقيم.. تارة بـ«معارك» كرة القدم، وطوراً باقتحام «كتاب غينيس للأرقام القياسية»!! ومع هذا الحال المزري، تتكاثر «السلامات» القائمة على قوة الأمر الواقع..

السابقة التاريخية في هذا الشأن كانت «السلام الروماني» Pax Romana الذي أسّسه أغسطس قيصر (أوكتافيوس)، واستمر نحو 200 سنة، بعدما فرضت جيوش الإمبراطورية الرومانية عملياً استتباب سلام الأمر الواقع في ظل أكاليل غار انتصاراتها على خصومها.

وفي الشرق الأوسط، منذ 1948، دوّخت إسرائيل العرب والعالم كله بشعارات «السلام» ولكن في ظل أكاليل غار انتصارات «جيش الدفاع الإسرائيلي» (!). والمعنى الذي اكتشفه المفاوض الفلسطيني بعد أكثر من 60 سنة من التعايش والتفاوض مع آلة الحرب الإسرائيلية.. أن المطلوب حقاً ليس أي سلام بالمطلق، بل «السلام الإسرائيلي» أو الـPax Israeliana.

واليوم يطل وزير الخارجية الإيراني منوشهر متكّي على جيرانه العرب، مهدّداً متوعّداً، فيقول «ننصح بشدة دول المنطقة والدول المجاورة بعدم التدخل في الشؤون الداخلية لليمن (!).. لأن من يختارون صب الزيت على لهب الصراع سيحترقون بنيرانه». ولم يكن مفاجئاً أن يستخدم رأس «الدبلوماسية» الإيرانية عبارة «أن إيران تسعى لأن يسود الاستقرار المنطقة برمّتها» في سياق مؤتمره الصحافي التهديدي في الوقت الذي تتكشف حقيقة العلاقة بين طهران والتمرّد الحوثي في اليمن.

وبالتالي، لدى النظر لاستراتيجية «القضم والهضم» التي تتبعها طهران على امتداد العالم العربي، ما عاد ممكناً، أيضاً، تجاهل وجود غاية «السلام الإيراني» Pax Iraniana.

ولكن المثير في شأن «السلام الإيراني» أنه لا يقوم على قوة إيران الذاتية فحسب، بل كذلك على تعميم حالة «أمر واقع» إقليمية بقوة السلاح تنطوي على «سلامات» فرعية في أكثر من مكان. وعلى سبيل المثال لا الحصر، يقوم في قطاع غزة «السلام الحماسي» حيث لا دولة ولا سلاح ولا مؤسّسات إلا تحت رحمة حركة «حماس»، التي طمأننا الجنرال غابي أشكنازي قبل أيام إلى أنها امتنعت وتمنع جماعات أخرى عن إطلاق الصواريخ على إسرائيل ومستعمراتها. وفي لبنان هناك طبعاً «السلام الحزب اللهي» الذي يخيّم فوق الحكومة الجديدة التي طالبها السيد حسن نصر الله، أمين عام «حزب الله»، بألا تحاول إثارة قضايا خلافية شائكة، بل تتعامل بإيجابية مع الواقع القائم.. بهدف «بناء الثقة» و«الاستقرار».

عودة إلى كلام الوزير متكي، لا بد من التذكّر أن المدرسة الفكرية التي ينتمي إليها «معاليه» لا تعترف بالحدود السياسية، لأن الحدود عندها دينية. ولذا، فهي وفق منطق حتى أولئك الذين ينفون وجود مطامح «إمبريالية» إيرانية في المنطقة العربية، لا تجد غضاضة في دعم أي حركة منسجمة مع فكرها عقائدياً وفقهياً في وجه من تعتبرهم خصوماً عقائديين وفقهيين. وهذا يعني أن دعم «حزب الله» ليصبح أكبر من الدولة اللبنانية، والحوثيين ليهزّوا وحدة اليمن، واستثمار صلات بعض الشيعة العراقيين في واشنطن مع «اللوبي» الإسرائيلي لضمان السيطرة على العراق.. مجرّد خطوات تفصيلية وتكتيكية صغيرة تخدم في نهاية المطاف المشروع النهائي لدولة «الولي الفقيه».

ولا شك أن نجاح هذا المشروع، إقليمياً، يعتمد على بضعة عناصر، أبرزها ما يلي:

ـ طبيعة رد الفعل المحلي المصلحي، وأيضاً العقائدي، حيث يحاول فرض وجوده.

ـ نظرة المجتمع الدولي الحقيقية لهذا المشروع، ومدى استعداده للتعايش معه.

ـ قدرة المجتمع الإيراني على تحمّل أعباء مشروع توسّعي إلى هذا الحد، إذا ما أدرك وجود رفض دولي له أكبر من مجرّد الكلام الفارغ.

ـ مدى قدرة المشروع على طمأنة جميع فصائل الأصولية السنيّة الراديكالية، واستغلالها كلها أو بعضها في خدمته.

ـ الإمكانية الضئيلة بحصول صحوة ما في العالم العربي تقوم على إدراك «كتلة» المخاطر التي تتهدّده، وبالذات، انطلاقاً من المؤامرة الإسرائيلية التي صفّت الخيارات العربية ودمّرت صدقيتها، فحيّدت الساحة وتركتها نهباً لطهران.

إن وجود مطامع إيرانية في المنطقة العربية مسألة ما عاد مقبولا أن تفاجئ أحداً. لكن لا إيران ولا أي قوة أكبر من إيران كانت ستتمكن من تحقيق ما حققته حتى الآن، لولا هشاشة المجتمعات التي أساءت تسييرها النخب العربية الحاكمة.

فتعامل السلطة، في أي مكان، مع فئات من الشعب كمواطنين من الدرجة الثانية، مسلك محفوف بالمخاطر من شأنه على المدى الطويل تدمير حصانة أي حكم. والقفز فوق التفاهم الوطني العريض لخدمة نخبة أو طبقة أو منطقة بعينها يضعف الشعور بالولاء ويفتح باب الاستقواء بالخارج.

ثم إن «للنصر مئة أب بينما الهزيمة يتيمة» كما يقال. وبالتالي، فإن توالي النكسات السياسية والعسكرية في أي مجتمع يهزّ مكانة السلطة في عيون الشعب الذي يتوقع منها ـ وهذا حقه ـ أن تكون متبصرة وعادلة وقوية في وجه الأخطار التي تواجهه وتهدّد مصيره ومصالحه.