إيران 2010: تدمير استقرار النظام العربي

TT

في حديث الثلاثاء الفائت، عن ازدياد احتمالات نشوب حرب في المنطقة العربية، لم أكن أتوقع نشوب الحرب بهذه السرعة: الحرب الكروية بين مصر والجزائر شاهد على طوفان الغث، على كل ما هو غالٍ وثمين وعاقل في المجتمعات العربية. ودليل على توغل التطرف «اللا عاقل وغير المعقول» في هذه المجتمعات، سواء في الغلوّ المتزمت وتسييس الدين، أو بتسييس الكرة والرياضة. كل ذلك على حساب الباقي الضئيل، من قيم سامية، ومصالح وعواطف مشتركة، تجمع العرب.

القراءة السياسية للمستقبل تحاول، دائما، أن تجعل من قراءة الفنجان «علما» مقبولا، وليس كهانة غيبية. مع ذلك، لا بد من المغامرة في التكهن السياسي، لتوعية الرأي العام، بخريطة الواقع الحاضر، والقريب الآتي، ولإرضاء الرغبة الغريزية لدى الناس، في استشفاف ما قد يحدث.

عندما أقول إني استبعد حربا عربية/إسرائيلية في عام 2010، فأنا أغامر بتجاهل صعود التوتر، بعد تشكيل حكومة إسرائيلية يمينية، متمسكة بالاستيطان، وتهويد القدس، ومعرقلة لإقامة دولة فلسطينية. هذا التوتر الذي زاد من مرارة خيبة أمل الفلسطينيين والعرب، في جدية الإدارة الأميركية الجديدة.

في العام الجديد، لا حرب بين العرب وإسرائيل. لسبب وحيد وبسيط: الجانبان لا يرغبان في الحرب. يستهولان الخسائر والنتائج. تملك إسرائيل التفوق العسكري. لكن في أية حرب أخرى، فالنظام العربي، أو التنظيم الديني، قادر على إنزال خسائر فادحة، غير مسبوقة، في الداخل الإسرائيلي.

استكملت إسرائيل في السلم ما حلمت بتحقيقه في الحرب: صلح مع مصر والأردن. توسع في الاستيطان والتهويد. تعطيل إقامة الدولة الفلسطينية. إشغال الفلسطينيين بمفاوضات تسويفية عقيمة.

محمود عباس هو أيضا نظام عربي. هو أيضا صنَع لنظامه المحتل إسرائيليا، استقرارا نسبيا شبيها باستقرار النظام العربي! بل صنع معجزة، عندما ضمن لنظامه وضفّته أمنا عجيبا بين مقاومات فالتة وعاجزة. هذا الأمن رفع من شعبيته، حتى في غزة التي تعاني حصارين. حصار إسرائيل. وحصار حماس. الأول يمنع لقمة العيش. والثاني يصادر الحرية السياسية والاجتماعية، ويمزق الوحدة الوطنية.

مشكلة عباس تتبلور في رهانه على السلم التفاوضي. السياسي المحترف لا يحرق أوراقه كلها، ليراهن على ورقة واحدة. عرفات لم يفعل ذلك. تراوح دائما بين السلم والمفاوضة والمقاومة والانتفاضة. حتى حماس راوحت بين الصاروخ والهدنة. بعد حرب غزة، راهنت على السلم. عقدت مهادنة غير جهادية مع إسرائيل. منعت حلفاءها من إطلاق الصواريخ.

بعد رفضها لعباس وزندقته وتخوينه، تعود حماس للالتفاف على سلطته. أبدت استعداداها لمصالحته، طمعا في وراثته، والحلول محله في مفاوضة إسرائيل على هدنة طويلة. شاؤول موفاز يرحب بسلم حماس. يعرض مبادرة لإعادة معظم الضفة إلى من؟ إلى حماس الراغب في مفاوضتها!

لا حرب فلسطينية/إسرائيلية في عام 2010. الاحتمال الوحيد المضاد للسلم، هو اندلاع انتفاضة في الضفة، إذا ما انهارت القوى الأمنية. الخوف من الانتفاضة يدفع أوباما ونيتنياهو إلى مداراة عباس، ريثما يتم ترتيب وضع فلسطيني جديد، إذا ما كان «الختيار الآخر» راغبا حقا في الاعتزال.

من سلام حماس وعباس، إلى سلام «حزب الله». لا إسرائيل ولا الحزب يرغبان في حرب يخسرانها معا. حزب الله حقق لنفسه أمنا واستقرارا. بات محميا بقوات دولية، تعجز إسرائيل نظريا عن اختراقها، في ظروف دولية غير ملائمة لها.

بل ها هو الحزب يستقر في صميم حكومة الوفاق الحريرية. عون «الصهر» الماروني للحزب فاز بكعكة الموارنة الوزارية، على حساب حليفه الأبعد (فرنجية قبضاي زغرتا)، وعلى حساب خصومه الموارنة في الأكثرية (القوات اللبنانية وحزب الكتائب).

في الرد على اختراق إيران المشرق العربي، وتمزيقها للصف الخليجي، وسحبها سورية من الحضانة المصرية/السعودية، تحركت السعودية لاستعادة زمام المبادرة من إيران. باتت العلاقة مع قطر أكثر ودا وانسجاما. أعلنت السعودية عن استعدادها لتمويل إعمار غزة بمليار دولار. واصلت السعودية تمويل سلطة عباس. دعمت استرداد العراق وعيه السياسي، من عراق طائفي. أدانت السعودية عمليات القتل الجماعي والتدمير الإرهابي في بغداد.

بل اقتربت السعودية من سورية. تمكنت من التنسيق معها في لبنان، بحيث تم تشكيل حكومة وفاق وطني، ترضي المعارضة المتحالفة مع سورية وإيران، أكثر مما ترضي الأكثرية الحليفة للنظام العربي. لم يبلغ المدّ السعودي مداه، بعد. مصر أكثر تشاؤما. مصر تنسق مع الأردن. لم تشارك في الانفتاح على سورية. مصر تعتقد أن سورية وإيران مع قطر تعرقل المصالحة الفلسطينية التي ترعاها الوساطة المصرية. مصر تنتظر، لتعرف إلى أي مدى تستطيع السعودية الذهاب، في استيعاب الاختراق الإيراني لسلام واستقرار المشرق والخليج العربيين.

في الرد على الرد السعودي المبادر، طوّرت إيران هجمتها على العرب. بات واضحا أن عام 2010 سينتقل بإيران من اختراق الشارع العربي، بدغدغة عواطفه الفلسطينية والدينية، إلى الاستهداف المباشر وبالواسطة، لسلام وأمن النظام العربي، ومحاولة النيل من استقراره الضامن لأمن مجتمعاته.

بدأت إيران تحركها المضاد، بالاستدارة نحو السعودية بالذات. عادت إلى تسميم أجواء الحج بالتصريحات الرسمية، على أعلى المستويات، ملوحة بتسييس أكبر موسم ديني. وهو أمر يثير حساسية السعودية الحريصة على أمن وسلام ثلاثة ملايين حاج أجنبي، ومليون حاج سعودي وخليجي.

في تعقلها، ما زالت السعودية قادرة على الحوار الدبلوماسي مع إيران. لكن الصحافة السعودية التي باتت تتمتع بحرية سياسية واسعة، لا تخفي التعبير عن الاستياء من سياسات إيران، ذلك الاستياء الذي يهدهده ويداريه الأدب التقليدي للدبلوماسية السعودية الرسمية.

بل ها هي إيران تسعّر لهيب الصراع المذهبي في اليمن، ليمس أمن واستقرار السعودية. إذا كانت إيران نجحت في تشجيع التسلل الحوثي عبر الحدود السعودية، فقد خسرت المعركة السياسية. أيدت الدول العربية الرئيسية، بما فيها سورية والجزائر ومصر والمغرب، السعودية في حرصها على سيادتها، ودفاعها عن حدودها، وأمن وسلام مواطنيها، وفي تضامنها مع شقيقها اليمن، خشية على عروبته ووحدته الترابية والوطنية.

وحده، عراق نوري المالكي يقف إلى جانب إيران في تشديد الهجمة الدعائية على السعودية. الهجمة النورية المفتعَلة تثير شكوك السعودية والنظام العربي، بجدّية تخلّي المالكي عن سوابقه الطائفية، ورفعه شعارات الوطنية السياسية.

قد تسألني قارئي العزيز: أراك تراهن على استقرار حالة السلم، فكيف تتحدث عن صعود احتمالات الحرب؟ أجيب بأن الاحتمال الوحيد هو حرب الغرباء على أرض العرب. حرب تشعلها إسرائيل أو أميركا، بمهاجمة فخاخ إيران النووية. ورد إيران بالتعرض لسلام وأمن الخليج، وبقصف إسرائيل بصواريخ عمياء، لا تميز بين خمسة ملايين يهودي، وخمسة ملايين فلسطيني. إذا أردت تفاصيل أكثر عن احتمال الحرب، فعليك بحديث الثلاثاء الفائت في «الشرق الأوسط».