نعم الصحافيون بحاجة إلى إعانات أيضا

TT

يخشى الرئيس الأميركي باراك أوباما الذي أعلن أنه «يدمن قراءة الجرائد الكبرى» أن يضطر إلى التوقف عن عادته بمتابعة الجرائد اليومية، حيث قال الشهر الماضي لرؤساء تحرير الصحف الذين سألوه عن الأزمة التي تهدد صناعة الصحافة بوجه عام: «أخشى أنه إذا كان الاتجاه السائد للأخبار في فضاء المدونات وكل صفحات الرأي الكتابة دون التحقق من معرفة الحقائق أو محاولة وضع الأخبار في سياقها الصحيح، فإن ذلك سينتهي بنا إلى مجموعة من الأفراد يتصايحون على نحو عقيم دون وجود نوع من التفاهم المشترك».

لكن يجب ألا يقتصر قلقنا فقط على توقف الصحف الكبرى، بل على التراجع السريع في صناعة الصحف الذي ينتشر ببطء عبر الصحف الصغيرة اليومية في المدن والمناطق الريفية عبر البلاد، مختفيا من دون أن يلحظه الكثيرون، فقد أغلقت العشرات من الصحف اليومية والأسبوعية هذا العام، وبدأت المدن التي جنت من قبل ثمار المنافسة الصحافية (دنفر وسياتل) في التضور جوعا.

أما المطبوعات التي لا تزال تصدر ـ والعديد قد تقدم بقضايا إفلاس ـ فقد خفضت من العمالة الموجودة بها (هذا الشهر أوردت «نيويورك تايمز» أنها ستتخلى عن 100 وظيفة في قاعة التحرير). أما المكاتب الدولية ومكاتب المجالس التشريعية ومكاتب واشنطن فستغلق لتتخلى الشركات الإعلامية عن واجبها في إعلام المواطنين بما يحدث باسمهم.

الجدير بالذكر في رد أوباما على السؤال، الذي طرح خلال المقابلة التي أجريت في المكتب البيضاوي مع رؤساء تحرير «بيتسبيرغ بوست غازت» و«توليدو بليد»، كان وعيه بأن المشكلة لا تكمن في احتضار الطباعة، ولكن المشكلة تمكن في أن قاعات تحرير الأخبار، التي كانت تكتظ بالصحافيين يوما ما، قد بدأت في الاختفاء ولم يتمكن البث الإعلامي أو الرقمي من ملء الفراغ. وقد كان أوباما محقا عندما قال إن إيجاد نموذج لدفع رواتب الموظفين للاستقصاء والتحليل وقول الصدق للسلطة أمر غاية في الأهمية لصحة ديمقراطيتنا.

وللمرة الأولى في التاريخ الأميركي نقترب من مرحلة لم نعد نملك فيها سوى القليل من الموارد المتاحة (مقارنة بحجم الدولة) المخصصة لنقل الأخبار.

من جهة أخرى فإن الاعتقاد بأن «عصر المعلومات» يتسم بالأخبار غير المؤكدة والدعاية، حيث دائما ما يفوز الصوت الأكثر تمويلا، ووصلت فيه السخرية والجهل وانعدام الأخلاق إلى مستويات وبائية. وهو ما بات خطرا يهدد التجربة الأميركية.

بني دستورنا الأميركي، كما تشير إلى ذلك المحكمة العليا، على الافتراض بوجود مواطنين على اطلاع ومشاركة في صنع القرار. وإذا لم تتواجد وسائل إعلامية كافية لجعل ذلك واقعا ملموسا فإن المؤسسة ستنهار تبعا لذلك.

ويقول أوباما، أستاذ القانون الدستوري السابق: «إن وجود حكومة دون جهاز إعلام قوي نابض بالحياة ليس بين خيارات الولايات المتحدة».

لسوء الحظ فإن السوق تفقد وظائف في مجال الصحافة بمعدل يتجاوز 1.000 وظيفة شهريا ـ مع اهتمام قليل بوجهة نظر الرئيس. فما هو المخرج؟ إن إنقاذ الشركات الإعلامية سيكون نوعا من العبث السياسي والأخلاقي. لقد أنهكت تلك الشركات الصحافة وإذا لم تكن قادرة على إدارتها فعليها الرحيل عنها.

هل سننتظر تطبيق نظام الدفع مقابل التصفح أو رجال الخير من البليونيرات أو نماذج العمل غير المتوقعة للحصول على القدر الكافي من الأخبار للوفاء بالمتطلبات الضخمة من مجتمع يحكم نفسه بنفسه؟ لكن لا توجد أدلة بأن مثل هذا الدواء يلوح في الأفق.

وهذا ما يدفعنا إلى مكان واحد للبحث عن حل خلاله: إنها الحكومة. هل نطالب هنا بإعلام تديره الدولة؟ كلا على العكس.

إننا نسعى إلى إحياء إرث غني وإن لم يكن منسيا إلى حد كبير من التقليد الأميركي في حرية الصحافة، تلك التي تتحدث بصورة مباشرة عن أزمة اليوم. إن التعديل الأول للدستور يحظر رقابة الدولة على المطبوعات، لكنه لا يمنع المواطنين من استخدام الإعانات الحكومية وإنشاء وسائل إعلام مستقلة.

بالفعل فقد بنيت صحافة ما بعد الاحتلال على إعانات ضخمة. ولم يتخيل الجيل الأول من الأميركيين أن يوفر السوق صحافة ضخمة وكافية، وكان الانطباع غير متوقع. فقد قدموا إعانات مستنيرة وسعت من سوق الأفكار وعملت على تطوير وحماية جوهر الحرية، كما كانت تلك المبادرة ركيزة لتقدم أميركا.

ووفق حساباتنا فإن قيمة الإعانات الفيدرالية للصحافة كنسبة للناتج المحلي الإجمالي في النصف الأول من القرن التاسع عشر تبلغ حوالي 30 مليار دولار في العام في ميزانيتنا الحالية. وقد كانت نوعا من الالتزام أرساه جيرسون وماديسون، وهو ما يجب علينا وضعه في الأذهان لدى تعاملنا مع الأزمة الحالية.

هذا المستوى من إعانات الصحافة موجود في الدول الإسكندنافية التي تعد بين أكثر الدول ديمقراطية وحرية في العالم.

ربما يبدو إنقاذ الصحف مستحيلا، لكن بإمكاننا إنقاذ الصحافة. تأتي الخطوة الأولى عبر بدء مناقشة طرق إعانات عامة مستنيرة لتقديم التنافسية والإعلام الرقمي المستقل. كما يجب علينا أيضا أن نوسع من تمويل وسائل الإعلام العامة والجمعية ووضع سياسات تساعد في تحويل الصحف اليومية المحتضرة إلى مؤسسات إخبارية منخفضة الربحية تتعدى نطاق الشركات وتدرك مقومات الإنترنت. وإذا ما فعلنا ذلك فلن تعيش الصحافة والديمقراطية فقط بل ستزدهران أيضا.

* روبرت ماكزني أستاذ في جامعة إلينوي في أوبانا تشامبين.. وقد أسسا منظمة فري برس غير الربحية وغير الحزبية عام 2003 التي تهدف إلى إصلاح الإعلام.. كما شاركا في تأليف الكتاب الذي سيصدر قريبا بعنوان «موت وحياة الصحافة الأميركية»

* جون نيكولاس كاتب في صحيفة «ذا نيشن» ورئيس تحرير صحيفة «كابيتال تايمز أوف ماديسون»

* خدمة «واشنطن بوست»

خاص بـ«الشرق الأوسط»