من واشنطن إلى طوكيو وبالعكس!

TT

عندما وصل الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى طوكيو يوم الجمعة الماضي ربما وجد بلدا جديدا مختلفا عما تعود عليه الأميركيون من قبل. صحيح أن أوباما هو الآخر يمثل ظاهرة جديدة في الحياة الأميركية وفي النظام العالمي معا، ولكن ظاهرة أوباما التي لم يمض عليها أقل من عشرة شهور على التواجد في البيت الأبيض، تعرضت لقدر من الأفول السريع الذي لم يكن يتوقعه أشد معارضيه. ومن الجائز أن مرور حزمة الرئيس الأميركي الخاصة بالرعاية الصحية من مجلس النواب بعد فوزه بجائزة نوبل قد تعطيه بعضا من قوة الدفع، ولكن المؤكد أن قدرا غير قليل من سحر أوباما قد ضاع في عالم توقعاته أكبر من إمكانياته، وأحلامه أعظم مما يستطيع تحقيقه. وهو عالم خلقته كلمات أوباما ولكنه بات عصيا على التحقيق، أو على الأقل يحتاج إلى ما احتاجته كل الكلمات من قبل، وهو الزمن، والصبر، والانتظار.

واحدة من علامات أوباما هي أنه لم يعد بالضبط رئيسا أميركيا فقط، وربما كان أكثر الرؤساء الأميركيين سفرا بين دول العالم خلال العام الأول من رئاسته، والرجل لا يزال يسجل شعبية بين دول العالم أكبر مما يحققه داخل الولايات المتحدة نفسها. ولكن سواء كان الأمر في أميركا أو في العالم فإن قوة الكلمات وسحرها لم تعد كافية، وحتى هذه اللحظة فإن الرئيس الأميركي لم تظهر له أسنان تسمح له بالمضي قدما في سياساته، والحالة في الشرق الأوسط شاهدة على أن المواقف الطيبة من المستوطنات والدولة الفلسطينية تبقى على حالها «مواقف» دون قدرات سياسية تحولها إلى واقع.

ولكن ما يبدو على أوباما أنه لم يعد يبحث عن القدرات داخل الولايات المتحدة بقدر ما يبحث عنها من خلال خلق تحالف دولي واسع يساعده على تطبيق سياساته. من هنا تأتي دقة، وربما حرج، اللقاء في طوكيو، حيث وصلها صاحبنا وقد أخذت اليابان توجهات جديدة بعد الانتخابات التي أفرزت حقائق جديدة في الواقع السياسي تلقي بظلالها أول ما تلقي على العلاقات الأميركية اليابانية. فقد أسفرت انتخابات مجلس النواب الياباني التي أجريت في 30 أغسطس 2009، عن اكتساح المعارضة، ممثلة في الحزب الديمقراطي الياباني، مقاعد المجلس بأغلبية 308 من أصل 480 مقعدا مقابل 119 للحزب الديمقراطي الليبرالي الحاكم. وسبب هذه النتيجة فشل الحزب الحاكم في التوصل إلى حلول للمشكلات والأزمات المتراكمة التي واجهت اليابان، وعدم إدراكه لتصاعد حدة السخط والاستياء لدى اليابانيين، لا سيما أن شريحة كبيرة من المجتمع الياباني من الشباب أصبحت طامحة في التغيير الذي بات صيحة عالمية بعد انتخاب أوباما في الولايات المتحدة. وقد استعار زعيم الحزب الاجتماعي الديمقراطي الياباني يوكيو هاتوياما الذي فاز في الانتخابات شعارات التغيير التي رفعها الرئيس الأميركي باراك أوباما وجعل عنوانه الرئيسي في الانتخابات «سياسات في خدمة المواطن» التي كان أبرز ملامحها إجراء بعض التغييرات في توجهات السياسة الخارجية اليابانية، من خلال الاحتفاظ بعلاقات شراكة أكثر توازنا وتكافؤا مع الولايات المتحدة الحليف الأمني والاستراتيجي لليابان، إلى جانب إقامة علاقات أكثر عمقا مع الصين والدول الآسيوية المجاورة.

وفور توليه مقاليد منصبه كرئيس للوزراء، أعلن هاتوياما عزمه انتهاج سياسة خارجية أكثر استقلالية عن الولايات المتحدة تقوم أولا على مراجعة الاتفاقات العسكرية الموقعة مع الولايات المتحدة، لا سيما الاتفاق الذي وقع عام 2006 والخاص بنقل قاعدة «فوتينما» الجوية الواقعة في منطقة عمرانية بجزيرة أوكيناوا، حيث ترغب الحكومة اليابانية في نقلها إلى خارج الجزيرة وليس داخلها، وذلك لتخفيف العبء على سكان أوكيناوا التي تؤوي 75% من القواعد ونصف القوات التي يبلغ عددها 47 ألف رجل من الجيش الأميركي في اليابان. وثانيها مطالبة الولايات المتحدة بتحمل بعض أعباء نشر القوات في اليابان بعد أن كانت طوكيو هي التي تتحمل عبء «احتلال» أميركا لها. وثالثها إنهاء مهمة «قوات الدفاع الذاتي» ـ الاسم الرسمي للجيش الياباني ـ في المحيط الهندي لأنها تتعارض مع الدستور. حيث تقوم اليابان حاليا بتزويد بعض القطع الحربية الأميركية في المحيط الهندي بالوقود، لمساعدتها على تأدية مهامها في أفغانستان. ورابعها إيفاد جنود «قوة الدفاع الذاتي» إلى السماوة في العراق مع القوات متعددة الجنسيات الأخرى. وخامسها إرسال سفن قوات الدفاع الذاتي البحرية لمقاومة القرصنة قبالة سواحل الصومال.

هذه الحزمة من السياسات تشير من جانب إلى رغبة يابانية في الاستقلال «النسبي» لليابان تجاه الولايات المتحدة، ولكنها من ناحية أخرى تشير إلى رغبة يابانية في لعب دور دولي يتناسب مع مصالحها المباشرة. ووفقا لهذه الرؤية، فإن الحزب الديمقراطي الياباني يعتقد أن على اليابان ألا تضع كل بيضها، خاصة على الصعيد الأمني والاستراتيجي، في السلة الأميركية، لا سيما أن العلاقات الأمنية الوثيقة مع الولايات المتحدة، رغم أنها دعمت أمن اليابان ومصالحها العليا، إلا أنها أنتجت تداعيات سلبية، يتمثل أهمها في صعوبة إقامة علاقات قوية مع الجيران الرئيسيين، خاصة الصين، لأن واشنطن عادة ما تستخدم تحالفها مع اليابان للحد من النفوذ الصيني في شرق آسيا، وفيما يخصنا تبني وجهة نظر أقرب للولايات المتحدة فيما يتعلق بقضايا الشرق الأوسط، حيث بدا أول المؤشرات في إصدار الخارجية اليابانية قرارا بتعيين سفيرها بالقاهرة كاورو ايشيكاوا مندوبا معتمدا لبلاده لدى جامعة الدول العربية‏،‏ بالإضافة إلى عمله‏، وهو ما يؤشر إلى زيادة اهتمام اليابان بتقوية علاقاتها مع الدول العربية في جميع المجالات‏، إضافة إلى سعيها للقيام بدور أكثر فعالية ونشاطا لدعم عملية السلام في الشرق الأوسط وبناء الثقة بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي.

هذه التحركات الجديدة أثارت قلقا ملحوظا لدى الولايات المتحدة، خصوصا أنه على مدى أكثر من خمسين عاما، كانت واشنطن تعتبر دعم اليابان مسألة مفروغا منها. وكشريك أصغر، قامت اليابان بوضع سياسة خارجية تتوافق مع مصالح الولايات المتحدة، وإن كانت سياستها الاقتصادية أكثر استقلالية. وفي المقابل، تتولى الولايات المتحدة حماية أمن اليابان، رغم أن اليابان تتحمل بالفعل معظم التكاليف المالية للحماية الأميركية. ولذا دفعت هذه التحركات اليابانية مسؤولا في الإدارة الأميركية إلى القول بأن «الملف الأصعب اليوم ليس الصين بل اليابان» بالنسبة لإدارة أوباما، لكن ذلك لا يعني وجود موقف أميركي موحد تجاه حدود التحول في السياسة الخارجية اليابانية وأسلوب التعامل معها، حيث يبرز في هذا السياق ثلاثة اتجاهات: الأول، يرى أن الأزمة الحالية تعود إلى عدم خبرة الفريق الحاكم، ويستبعد حدوث شرخ في التحالف الياباني ـ الأميركي. أما الثاني، فيتوقع أن تتجه الحكومة اليابانية إلى محاولة تحقيق التوازن بين السعي نحو مشاركة أكثر تكافؤا مع الحليف الأميركي من جهة، والالتزام إلى حد كبير بسياسات الحزب الليبرالي الديمقراطي، خاصة فيما يتعلق بالمحافظة على التحالف الياباني ـ الأميركي باعتباره محور السياسة الخارجية اليابانية‏ من جهة أخرى.‏ فيما يعتبر الاتجاه الثالث أن القلق من التحول في سياسة اليابان الخارجية غير مبرر، إذ إن التحرك الياباني نحو تعميق العلاقات مع الجيران، ربما لن يؤثر كثيرا على مصالح واشنطن، لا سيما في ظل إمكانية أن يدعم تحول اهتمام السياسة الخارجية اليابانية نحو آسيا من إمكانية تقليص محاولاتها لتبييض تاريخها العسكري، ومن ثم تحقيق المزيد من الاستقرار في شرق آسيا. كما أن المشكلات الاقتصادية الكبيرة التي تواجه اليابان بسبب قلة عدد السكان وتصاعد الدين الوطني العام، ستقيد قدرة الحزب الديمقراطي على تطبيق سياسات اقتصادية اشتراكية، يمكن أن تؤثر على العلاقات الاقتصادية بين طوكيو وواشنطن. وفوق ذلك، فإن اليابان لا ترغب في التخلي عن علاقتها بالولايات المتحدة، لتصبح شريكا أصغر للصين، خصوصا في ظل وجود نزاعات تاريخية بين طوكيو وبكين. والخلاصة أن الحوار بين الطرفين ربما يؤدي إلى نقطة توازن جديدة في ظل تحالف دول عظمى ومتقدمة لها رؤى مشتركة تجاه الدنيا والعالم.