المدينة المنورة: على أبواب عهد طباعي وصحافي جديد

TT

اليوم، تُعبر المدينة المنورة جسر الطباعة والنشر بين ماضٍ له، ومستقبل:

.. أما الماضي، فعمره في تاريخ الإعلام مائة عام، يوم لم يكن في المدينة سوى مصباح كهربائي صغير، عمره عام واحد، يضيء الحرم النبوي الشريف.

وأما المستقبل، فيبدأ من هذا المساء، عشية الاحتفال بتدشين أكبر حقل طباعي في تاريخ المدينة المنورة، العاصمة الأولى للدولة الإسلامية.

كان رائد النشر الأول قبل مئة عام ـ أواخر العهد التركي ـ هو عبد الحق النقشبندي (المتوفى عام 1402هـ ـ 1982م) الذي جلب في عام 1327هـ (1909م) مطبعة يدوية لطبع البطاقات والمظاريف، فتحت الباب، في ذلك العام، لصدور أول صحيفتين في المدينة المنورة:

جريدة «الرقيب»، التي كانت تُخَطّ باليد وتُطبَع على ورق الجلاتين، وجريدة «المدينة المنورة» الناطقة بالعربية والتركية.

ثم بعد سبع سنوات، ظهرت الصحيفة الثالثة «الحجاز» التي نقلها الأتراك من مكة المكرمة ـ بعد انحسارهم منها ـ إلى المدينة المنورة عام 1334هـ (1916م) بعد تحسن نسبي في الظروف الطباعية والتحريرية، لكنها توقفت بعد عام، بسبب انقطاع الورق، إبّان الحرب العالمية الأولى.

وكان من رواد التحرير الأوائل في تلك الصحف التركية الثلاث: إبراهيم خطاب وأبو بكر الداغستاني لـ«الرقيب» ومحمد مأمون الأرزنجاني لصحيفة «المدينة المنورة» وحمزة غوث لـ«الحجاز».

أما في العهد السعودي، فبدأت الريادة الصحافية، قبل خمسة وسبعين عاما، على يد عثمان حافظ (المتوفى عام 1413هـ ـ 1993م)، الذي كان اشترى مطبعة النقشبندي «طيبة الفيحاء» وطورها بإضافة مطبعة جديدة اشتراها من مصر، وكادت تغرق في مياه البحر الأحمر أمام ساحل ينبع. وأما الرائد الثاني، فإنه موسوعي المدينة المنورة العلامة عبد القدوس الأنصاري (المتوفى عام 1403هـ ـ 1983م)، صاحب أول إصدار صحافي سعودي في هذه المدينة المقدسة، وأول مجلة أهلية في المملكة: «مجلة المنهل»، التي صدرت شهريا في ذي الحجة سنة 1355هـ (فبراير 1937م)، وقد طبع أعدادها الأولى في تلك المطبعة المتواضعة المطورة «طيبة الفيحاء»، وروى قصة معاناته مع الترخيص ومع الإصدار الأول وظروف بداياتها، في كتاب «المنهل الفضي» الصادر عام 1380هـ (1960م)، وهي تحتفل هذا العام بمرور 75 عاما على صدورها.

وبعد ذلك بشهر (مطلع عام 1356هـ ـ 1937م)، سجل عثمان حافظ ريادة صحافية ثانية للمدينة المنورة ـ رافقه فيها أخوه الأكبر علي ـ بإصدار أول صحيفة أهلية سعودية فيها، سماها باسمها، ووثّق قصة صدورها وتفاصيل جلب مطبعتها الخاصة الآنفة الذكر، في رواية مشوّقة تصلح للعرض المرئي، تضمنها كتابه الصادر عام 1396هـ ـ 1976م، وهي تكمل في هذا العام أيضا خمسة وسبعين عاما من العمر.

وكان الأنصاري، قد وجد قبل الحرب العالمية الثانية، أن الظروف الفنية والاقتصادية في المدينة المنورة لا تساعد مطبوعته على البقاء فيها، فأقدم على نقلها إلى جدة، ثم لحقت بها جريدة المدينة في أوائل الثمانينيات الهجرية (الستينيات الميلادية) حيث لا تزالان تصدران هناك حتى الآن.

واليوم، تدشن المجموعة السعودية للأبحاث والتسويق أول مشروعاتها الإعلامية الطموحة في مدينة المصطفى عليه الصلاة والسلام، حقلا طباعيا هو الأجود نوعا في تاريخها، يفتح الباب ـ بإذن الله ـ لعهد صحافي جديد، ويؤذن بمستقبل نشر وإعلام، يعيد للعاصمة المقدسة مجدها التنويري المشع، وهو أمل أضعه بين يدي أمير ـ للمنطقة ـ متوثب، لا تنقصه الرؤى والفِكَر، ووزير ترعرع في أحضان الثقافة المستنيرة، ورجال الفكر والأعمال في المدينة المنورة، كي يُتبعوا هذه الخطوة بخطوات مكملة تتناسب ومكانة الموقع، الذي يستمد عراقته من التاريخ، وعبقه من الماضي والحاضر، ويشهد منذ عقود أكبر تطوير حضاري واقتصادي عاشه عبر القرون، وعهدا ثقافيا بالغ الازدهار والانفتاح.

اليوم يتحقق حلم، وينبعث أمل، ويعلو الترقب إلى مثقفي المدينة المنورة ومثقفاتها، لاستثمار هذا المرفق الطباعي الجديد، في حراك ثقافي وإعلامي أنشط.

وإنني، مدفوعا بغيرة مهنية، وحب وإجلال لقدسية المكان، واهتمام أكاديمي بتاريخه الصحافي، لأرجو أن تستعيد طيبة الطاهرة مجدها الفكري والصحافي التليد، عندما كانت لها ولشقيقتيها مكة المكرمة وجدة الريادة الصحافية والطباعية في هذه الجزيرة منذ مائة عام، وكانت مكة المكرمة والمدينة المنورة منارتي إشعاع علمي للعالم الإسلامي.

* بمناسبة افتتاح مشروع الشركة السعودية للطبع والتغليف في المدينة المنورة الثلاثاء 17/11/2009

* باحث وإعلامي سعودي