عكاز باسمه

TT

عندما كان صغيرا أخذته إلى طبيب لمعالجته من مرض فأعطاه الطبيب إبرة في ساقة اليمنى أدت إلى شللها. واستبدل بالساق العكاز. وحرمه وضع أهله المادي من المدرسة في المدينة فبقي في القرية، جاعلا منها عالمه الوسيع والضيق، في الصيف عندما يزداد سكانها، وفي الشتاء عندما يقل، ويزداد عتمها وزمهريرها وتقصر نهاراتها.

ووزع القوة التي فقدها في ساقه على ساعديه ويديه، فكان له بأس شديد. وتَقبّل قدَره وخطأ الطبيب بفرح فكان باسما طوال الوقت، متفائلا على الدوام، يُسَرّ للأخبار السارة مهما صغرت ولا يتوقف عند كدر. ورأى أنه لا يستطيع أن يجاري الأطفال في اللعب ولا لاحقا الشبان في اللهو، فصنع لنفسه عالما عجيبا في رفقة الطيور وخصوصا الحجل. وقد ربى مرة حجلا عجيبا كان يعامله كرفيق لم ينقصه سوى النطق. وعندما سألته عن أخبار الحجل منذ سنوات قال إنه غضب منه مرة وصرخ به فما كان منه إلا أن خرج ولم يعد.

العمل الوحيد الذي استطاع القيام به هو أن يفتح دكانا صغيرا في القرية. وفي الصيف والشتاء وأزمات الاقتصاد العالمية والمحلية لم يفقد ابتسامته وروحه الطيبة. فما سمعته مرة يتذمر ولا أعتقد أن أحدا سمعه يشكو. وكنت أحرص كلما ذهبت إلى القرية أن أمر به، في الدكان الذي لا يتسع إلا لكرسيه خلف طاولته ولكرسي ضيفه أمامها. وكان يتندر دائما بحكايات زبائنه، فيقول لي إن أحدهم يأتي لشراء ربطة خبز، فيروح يتفحصها وكأنه يشتري سيارة كاديلاك.

والكاديلاك هي السيارة التي كنا نحلم بها صغارا. فقد كانت السيارات الأميركية، على قلتها، الوحيدة المعروفة في المنطقة. والكاديلاك كانت أكثرها زهوا وأغلاها ثمنا وموضع إعجاب الحالمين من الصغار والكبار. غبت عن لبنان وعن القرية سنين كثيرة وأتحاشى الآن أداء واجب العزاء، لأنني مسافر معظم الوقت، ولا أريد أن أبدو انتقائيا أو أن أثير عتب أحد.

عندما تبلغت نعي «جميل أبو سليمان» شعرت بحزن عميق. وفكرت في أن أحدا لن يمشي في جنازته. القرية فارغة في الشتاء. وهو قد سبقه أشقاؤه إلى الغياب. وكان وحيدا في أي حال، ولو باسما ومتفائلا وموزعا قوة ساقه اليمنى على ساعديه. وتخيلت مدى وحدته حتى وهو يودع القرية التي نادرا ما غاب عنها. وقررت هذه المرة ألا أغيب.