ملل المسيو دورمسون

TT

يمنح الله الرعاة أصواتا جميلة لكي يغنوا لأنفسهم. تخيلهم، وحيدين، في الصحارى، في البراري، في جرود الجبال، وحيدين، مع النوق أو مع الماعز أو مع الغنم، وما من إنسي أو أنيس، فماذا يفعلون ليطردوا شيئا من السأم المطبق؟ يغنون. وأحيانا يخاطبون الشاة كمن يخاطب رفيقا. وأحيانا يسحبون الناي من جيب العباءة ويعزفون للشمس أو للحر أو للبرد. ودائما للوحدة أو للسأم.

أتذكر ذلك وأتخيله وأنا أقرأ «الضجر» للكاتب الفرنسي من أصول نبيلة، جان دورمسون. فصلا بعد فصل حول السأم. رجل ثري شهير نافذ يعيش في باريس فوق المقاهي والمتاحف والمكتبات، ويشكو من السأم. فصلا بعد فصل. وأنا أقرأه، وأمامي تلفزيون يحكي لنفسه، وأمامي صحف النهار وكتب المساء، وإلى جانبي هاتفان، ومع ذلك أشعر بالملل. لا أنس صديق ولا دفء عائلتي. و لا أملك إلا أن أتذكرهم.

رأيتهم في حقول لبنان وفي جبال البيرينه وعلى جوانب الطرقات في أفريقيا وفي صحارى المملكة، وحيدين هم وقطعانهم ومواشيهم ورواحلهم. وحيدين، ويغنون الميجانا والعتابا.. يغنون.. والمواويل وشعر الهوى يغنون، والقطعان لا تأبه. هي أيضا ملت رتابة المواويل وإيقاع الحداء. لقد حفظ كل دوره ولحنه وإيقاعه منذ زمن: الراعي والناي والقطيع. والرمل والكثبان والمراعي. والفجر والضحى والزوال وحر الثانية. تحافظوا بعضهم بعضا. وألفوا ألفتهم القديمة. وعندما يطل القمر يلقي التحية سريعا ويذكرهم بأن الليالي التالية من دون عتم وأصوات حشرات تردد أي شيء، على نغم واحد، متذمرة هي أيضا من رتابتها.

والمسيو دورمسون، في شقته الفاخرة في باريس، المطلة على السين وأضواء برج إيفل، المطلة على مراكب المساء تعبر النهر بالمغنين وأطباق الطهاة العتاق، الذين هم أيضا سئموا رائحة الوجبات وألحان المراكب وصوت الأدلة يخبرون السياح حكايات المدينة. والمسيو دورمسون يشكو السأم، وأنا أتصفح الكتب دون توقف على شيء مما أبحث عنه، ولا أتذكر أحدا سوى الرعاة، كيف يمضون هذا العمر، بادية خلف بادية، فلاة بعد فلاة، قمرا بعد قمر، نايا بعد ناي، موالا بعد موال، قرس الشتاء وقيظ الصيف، وهم يغنون. ولا يعرفون شيئا عن ملل المسيو دورمسون.