المرأة بين حلم الأنوثة.. ووهم «المساواة»

TT

أتذكر يوما أنني وُصفت في تعليقات أحد القراء على مقالة نشرتها في هذه الجريدة نفسها، بعنوان «أصناف أخرى من الرجال يجب أن نخافها أيضا»، بالعدائية المتطرفة تجاه الرجل، وبكون مقالاتي «بالوعة»، أفرغ فيها كل ما علق بي من كدر وهم، وكره للرجل، وانكسار وفشل..

والحقيقة أن هذه التعليقات التي أتلقاها بلهفة وحب، هي أشبه بكوة أطل عبرها على أفكار وملاحظات القارئ، ولا تعبر عن نمط تفكير القارئ وحده، بل عن سياق مجتمعي ككل، ساهم في التأثير على هذا القارئ، وعلى نسج رؤيته وتفكيره للذات والوجود، سواء تم ذلك بشكل إيجابي أو بشكل مشوه.

أمر صحي أن تكتب المرأة عن الرجل، وتنتقد هفواته وزلاته وازدواجيته، كلما أحست برغبة في ذلك، لأنها تحبه، وتطمح إلى نسف تلك القيم التقليدية التي تخلخل الصورة الطوباوية المنحوتة عنه في تفكيرها وذاكرتها. لكن أحيانا أخرى، قد تكون أشبه بطرس في حاجة إلى حبره الذي يجعلها تفيض استيهامات وضوءا وبهاء، ولا تخفي بين الفينة والأخرى حاجتها إلى ما يمنح حياتها اخضرارا وضوءا وأثيرية. وأحيانا أخرى تكتب كي تمد كلماتها برزخا لينجوا معا، أي المرأة والرجل، في هجير العالم وفقدان المعنى.

هي تنتقده وتكره سلطويته واستبداده وازدواجيته، لكنها تأمل «المساواة» والتشبه به، لكن هل الرجل شخص كامل ومكتمل سيكولوجيا ومجتمعيا وفكريا، بشكل يدفعها إلى الصراخ طلبا «للمساواة» به؟ أليس الرجل أيضا ضحية انفلات وإرهاب مجتمعي وسياسي وأسري معين؟ ألا يمكنها أن تناضل وتطالب بحقوقها بشكل يتجاوز «المساواة» إلى حيز أرحب وأوسع؟ وهل الاحتفاء بالحقوق يستوجب البكاء على أطلال أنوثة جبلت عليها؟

في البداية، رفعت المرأة العربية عقيرتها بالصراخ طلبا «للمساواة» مع الرجل، في الحقوق والمواطنة، دون إخفاء مشاعر العداء والكراهية تجاهه، بعدما اكتشفت أنها مواطنة من الدرجة الثانية. شيء جميل أن تناضل المرأة للتمتع بحقوقها، لكن دون عداء وكره وخضوع أو سيطرة على الرجل، بالإغراء والحيلة والتآمر، ودون التشبه به، ودون تسلط وعنجهية، بشكل يجعلنا أمام تسلط مجتمعي من نوع آخر، وبملامح أنثوية هذه المرة. فالحديث عن «المساواة» الكاملة مع الرجل يعد ضربا من الحمق والتفاهة، ربما تحقق نسبيا مبدأ تكافؤ الفرص، وتم اجتثاث كل أشكال التمييز بين الجنسين، وظفرت المرأة بحقوقها، لكن لا يمكنها أن تتساوى به، ليس لعدم أهليتها وكفاءتها، بل لأن تساوي الجنسين وتطابقهما هو نوع من الاستنساخ الذي يقتل فورة الإبداع والعطاء عند كليهما، وإن كان لا بد من النضال من أجل «المساواة»، فحري بها أن تناضل من أجل الاختلاف أو التفوق على الرجل عوض أن تقف عند عتبة «المساواة»، وكلها ثقة في مؤهلاتها وعطائها وقدراتها، يقول الروائي الحائز على جائزة نوبل وليم جولدنج في مقدمة إحدى رواياته: «من الغباء أن تتخيل النساءُ أنفسهن مساويات للرجال، لأنهن يتفوقن عليهم بكثير».

للأسف، غدت هذه «المساواة» المنشودة صخرة سيزيف متعبة، تسلمتها المرأة العربية لوحدها في مسيرتها الحياتية، فتتعثر وتحملها من جديد، وهكذا دواليك، في سلسلة من المتاعب والمآزق اللامتناهية، ولا مجال لشكواها وتذمرها، فلا بد أن تتحمل تبعات نضالها، بصمت وبلا انفعال، ومع ذلك ظلت المرأة طيلة مسيرتها النضالية منبهرة بمبدأ «المساواة»، بشكل يزرع في نفسها جينات التمرد، ويشدها إلى فلك دوار، ويبذر قلقا وازدواجية وحيرة في تفكيرها، وظلت تتأرجح بين «مساواة» حقيقية تحلم بها، وتترقب انبلاجها، كمن ينتظر انبلاج ضوء بداية النهار، وحنين إلى أقاصيها الخفية، وإلى أنوثة تتدثر بغلائلها الشفيفة، أنوثة تصرخ، فتكتم أنفاسها وتدسها بقسوة وعصبية وجلافة في حقيبة يدها اليومية.

لكن صوت الأنثى أحيانا يجتذبها ويشدها بهمسه ونعومته وألقه فتسلم له القياد، فتأمل أن ينهض الرجل من مكانه في الحافلة أو في قاعة الانتظار ليترك لها المكان بأريحية، وهو اليائس المتذمر، لكونها، في نظره، لم تترك له أماكن عمل شاغرة. وهي إذ تستمتع بعشاء رومانسي بصحبة زوجها، تنتفض إذا ما نسي بطاقة الأداء، أو إن لم يبادر بالدفع، فالأمر في نظرها انتقاص لأنوثتها ولحضورها كامرأة.

تطالب المرأة بـ«المساواة»، لكنها تمتنع عن المساهمة في نفقات البيت، مع أن المساهمة في الإنفاق غدا ضرورة في ظل أوضاع المجتمع الراهنة، التي تستلزم مساهمة الرجل والمرأة معا لاستمرارية الأسرة، لكن الخوف كل الخوف أن يرفع الرجل يوما ما دعوى النفقة ضد المرأة. قد تشتكي المرأة من محاصرة الرجل لها، وعدم قدرتها على التجول والحرية والاستمتاع بمنظر البحر أو الغروب لوحدها، لكنها قد تتذمر من الجفاء وغياب غزل رقيق وراق، يشعرها بأنوثتها وجمالها.

وأحيانا نجد بعض النساء «المناضلات»، قد أثقلت «العنوسة» أو الطلاق ظهورهن المنهكة، وأبدين عداء تجاه الرجل، لكن بمجرد زواجهن يتخلين عن كل الشعارات، ويذعنّ لحضن الرجل بكل لهفة وشوق.

وأحيانا تصب المرأة الكاتبة أو الإعلامية جام غضبها على الرجل في الملتقيات والندوات، وعلى كل من يخاطب جسدها دون إعارة أدنى اهتمام لفكرها، لكنها لا تكف عن التأنق والتجمل وتقول: إرضاء لأنوثتها.

وقد تصرخ المرأة كي تحظى بالمشاركة السياسية الفاعلة، لكنها ترفض أحيانا الاندساس بجرأة للتصويت في صندوق الانتخابات الجماعية أو البرلمانية، وخصوصا إذا كان الاسم المرشح امرأة.

كما ظلت المرأة الكاتبة في كتاباتها تتأرجح بين البوح بأنوثتها تارة والتسامي عنها تارة أخرى، ويؤكد عبد الله الغذامي ذلك بقوله: «ظلت المرأة الكاتبة تتأرجح بين أن تكون أنثى كاملة الأنوثة من جهة، وكاتبة كاملة في تميزها الإبداعي».

لذلك لا ضير ولا عيب من البوح جهرا بأنوثة مقهورة مدسوسة في حقول الصمت، واستعادة قيم الأنوثة التي تبددت في ظل هذا الركض اللاهث وراء «مساواة» موهومة، فمن حق المرأة أن تحظى بلمسة حانية، تكثف من نعومة عالمها، في ظل هذا اليومي المتعب والمحموم، وحبذا لو ظفرت بحقوقها السياسية والمجتمعية الثقافية، وانفتحت على ثقافات مغايرة، دون ذوبان وانحلال أخلاقي، ودون ضياع للهوية، مع وعيهما معا بقيم الاختلاف، بعيدا عن كل قيم التشنج والإقصاء والإلغاء، والوعي بهذا الاختلاف وبالذات هو الذي يضمن لكليهما، أي المرأة والرجل، الوعي بتميزهما، وبتفردهما، بشكل لا يؤدي إلى صراع، بل إلى ترابط وتآلف أسري.

* كاتبة من المغرب