محنة الحريري الابن

TT

ليس مزاحا أن يكون 48% من اللبنانيين فقراء، و8% منهم جياعا. الأرقام مرعبة والحقائق لمن يتأملها مخيفة. يصل سعد الحريري إلى رئاسة الحكومة ولبنان قد يكون أسوأ حالا مما كان عليه يوم وصل والده بعد حرب أهلية طويلة ودمار هائل. يومها كان العالم أكثر غنى، والتعاطف مع البلد الطالع من حربه أكبر. تدفقت الأموال حينها والهبات السخية، وتوافد المستثمرون المتفائلون بما أسموه «أكبر ورشة إعمار في العالم»، و«أهم ورشة آثار في الشرق». استلم الحريري الأب بلدا مدمرا، لكنه بلا ديون، ينظر إلى المستقبل بإقبال وثقة، أغرت العرب والأوروبيين بتبني قضاياه. ويستلم الحريري الابن بعد عقدين، البلد نفسه نصف مدمّر، مهترئ الأوصال، يستعطي حتى أقساط المدارس الرسمية لصغاره، بعد أن تعدت ديونه الخمسين مليارا، في ما العالم مشغول عنه بأزمته المالية الخانقة. جاء الحريري الأب بهالة وطنية، ودفع سوري وزخم سعودي، ولم يصل الابن إلا بعد معارك داخلية كان طرفا فيها، وتسوية عربية استفاد منها، لكن مهمته تبقى شاقة وعسيرة جدا.

حكم رفيق الحريري تحت المظلة السورية، ويدشن سعد الحريري عهده بالتحضير لزيارتها. سورية قدر لبنان الذي لا مفرّ منه. هامش المناورة لن يكون سهلا. الملفات المشتركة ثقيلة ووازنة، من ضبط الحدود المتداخلة وترسيمها إلى السلاح الفالت خارج المخيمات، والدور الرئيس لحزب الله وحلفاء الشقيقة، في كل شاردة وواردة. الملفات الداخلية ساخنة وحارقة هي الأخرى، ليس أولها الانقسام المذهبي الحاد والشروخ السياسية الغائرة، بل الفاقة والبطالة، والهجرة النازفة. أمراض استجلبها الفساد، وجعلتها الاختلاسات مزمنة وخطيرة. لقد تبخرت الأموال التي انهالت، ذات يوم سعيد، على لبنان وغطّت في جيوب المختلسين المتمترسين خلف نفوذهم وكراسيهم السلطوية.

تقول زوجة أحد الوزراء الجدد إن زوجها لا يستطيع إصلاح عشرات العقود من الفساد، لذلك فرئيس الوزراء لا يحسد على ما هو فيه. بلد يعوم على الماء ليس فيه مياه في الحنفيات، ويشتري أهله حاجاتهم للشرب والغسيل والاستحمام. حتى المياه الجوفية مهدورة وملوثة. الشواطئ الممتدة على طول 235 كلم من شمال لبنان إلى جنوبه إما لوثتها المشاريع الصناعية وأعدمت ثروتها السمكية، أو صادرتها أيدي السرقة وحولتها إلى منتجعات ومحميات للأغنياء. ولم تتمكن الدولة منذ عام 1990 من استعادة حق الناس في النزول إلى البحر من دون فرض خوّات عليهم، أو مواجهة قبضايات يمنعونهم بالقوة من الاستمتاع ببحرهم ورمل بلادهم. ملف ما يسمى بالأملاك البحرية، فضيحة وطنية، لا تقل عنها أهمية فضيحة الكهرباء، التي صرف عليها الغالي والنفيس ولا تزال شحيحة. مجرد البدء بإصلاح مهزلة الكهرباء سيحتاج 450 مليون دولار، لم يرصد منها سنت واحد حتى الآن. أما العجز السنوي المالي لشركة الكهرباء، ونقصد الروتيني منه، فهو مليار ونصف المليار دولار. هذا غيض من فيض ما ينتظر حكومة الحريري، التي يسود إحساس وكأنها الأولى بعد خروج الجيش السوري من لبنان. فكل القضايا بقيت معلقة بانتظارها. الضمان الصحي الذي يمس أكثر من مليون لبناني يقع تحت عجز يقدر بحوالي 900 مليار ليرة لبنانية. أما بقية اللبنانيين فهم غير مضمونين صحيا، وتضطر وزارة الصحة لأخذهم على عاتقها في حال الضرورة القصوى. «الجامعة اللبنانية» ليست أفضل حالا، فهي التي تخرّج الغالبية الساحقة من اللبنانيين ومع ذلك تعاني هبوطا شديدا في المستوى، واهتراء في البنية. وجود وزراء عدة من أساتذة الجامعة اللبنانية في الحكومة، سيجعل من العار ترك هذا الصرح منسيا ومهمشا كما كان الحال عليه حتى اليوم. ومن المعيب أن يقرأ أساتذة الأدب العربي طلابهم يكتبون في الامتحانات عن وجود السينما والمصانع في العصر العباسي، ويشيدون بالديمقراطية التي كانت سائدة، كما يحدث اليوم. سيكون من المعيب أيضا أن تبقى هذه الجامعة تحت رحمة التعيينات التي تراعي الانتماء الطائفي بدل المستوى الأكاديمي، ليظل التعصب معشعشا في نفوس وأرواح كوادرها.

يعرف الكثيرون أن إلغاء الطائفية السياسية كما نص اتفاق الطائف، هو المفتاح الحقيقي لمجتمع نظيف وشفاف لا تحكمه المذاهب والمحسوبيات. لكنها مهمة دونها صعاب وأشواك. ويخشى أن يضطر الحريري الابن للترقيع كما اضطر الأب للتسليك بالموجود.

الجميع كان بانتظار تشكيل الحكومة، وقد تشكلت الحكومة الموعودة بعد عسر مخاض، حتى قال البعض إن لبنان سيدخل «موسوعة غينس» بعد أكبر صحني حمص وتبولة، بضربه الرقم القياسي لأطول مدة لتشكيل حكومة. لكن العمل الذي ينتظر الوزراء قاس ويطال الناس في صحتهم وأمنهم وحياة فلذات أكبادهم. كل شيء بات مشكوكا فيه. المنتوجات الزراعية مسمومة بالكيماويات ولا أحد يعرف مستوى الخطورة الكامنة في الخسة أو حبة البندورة. البنزين الذي تتزود به السيارات قد يكون مغشوشا، في الأحيان، وقابلا للانفجار عند أول اصطدام، وليس من يضمن أمن الناس. الأدوية الموجودة في الصيدليات ليس من يكفل مصدرها أو عدم تعرض المرضى للغش وتزوير عقاقيرهم. المستشفيات بدورها تحولت لدكاكين لا من يحاسبها أو يراقب استغلالها للمتوجعين من الفقراء. لائحة الفساد طويلة وأليمة، والفوضى في بلاد الأرز عارمة، والبشري ربما يعيش بالصدفة أو بفضل حبه للبقاء والاستمرار في متعة ما تبقى من طبيعة تنسيه الضيم الواقع عليه.

لكن السوريالية الحياتية في غياب الحكومة أمر، واستمرار العبثية في ظلها هو أمر آخر. ومن بقي صامتا يعضّ على الجرح من عام 2005 إلى اليوم ملهيا مرة بالانفجارات وأخرى بالاصطفاف وراء العصبية المذهبية، ومرة ثالثة متصبرا بانتظار الانتخابات، قد لا يجد ما يسكته بعد اليوم. ولذلك فأن يكون نصف اللبنانيين فقراء، وأشبه بقنابل محقونة بالغيظ، هو أمر يجب أن تأخذه الحكومة بمنتهى الجدية.