تركيا ولعبة الكر والفر في «المثلث الذهبي»

TT

التفجيرات والاغتيالات التي سبقت زيارة رجب طيب أردوغان الأخيرة إلى كل من إيران وباكستان لها علاقة مباشرة بزيارته إلى البلدين وبرنامج عمله بشقيه الاستراتيجي والأمني تحديدا. أما الجولة بحد ذاتها فهي أبعد من أن تكون مجرد محاولة توسط بين طهران وإسلام آباد لخفض حدة التوتر في العلاقات بين البلدين. هي أيضا زيارة أهم من أن تكون كما أعلن رسميا محاولة وضع الخطط لمحاربة تجارة المخدرات في ما يسمى بـ«المثلث الذهبي» الذي يشمل إيران وأفغانستان ويصر الأتراك على أن أحد أضلاعه هو شمال العراق، حيث يحظى حزب العمال الكردستاني المتمركز هناك بحصة تمكنه من الوقوف على قدميه في مواجهاته مع الجيش التركي. كما أنها لن تندرج ضمن إطار سعي أردوغان لقيادة التحرك باسم «مجموعة أصدقاء باكستان الديمقراطية» التي عقدت اجتماعها الموسع في إسطنبول أخيرا، أو تقديم النصائح إلى إسلام آباد في مسائل الحريات والديمقراطية، فيما يواصل أردوغان حربه داخل تركيا على أكثر من جبهة باسم الديمقراطية ووقف تدخل المؤسسة العسكرية في الشؤون السياسية للبلاد.

جولة تزعج الكثيرين وتقلقهم لأنها في أبسط الأحوال تندرج في إطار محاولة تركيا توسيع رقعة الانتشار والنفوذ وسياسة التمدد. تحرك تركي له حتما علاقة بالسعي لإفساد مشروع حمل دب المذهبية إلى كرم المنطقة الذي يريده البعض هناك من خلال التحريض أو الاستفزاز أو التمويل المباشر. هو مشروع كان قد فشل في لبنان وخيبت دول الخليج آماله، وها هو يطل برأسه في اليمن ويجرب حظه في باكستان وأفغانستان.

هي إذن جولة لها علاقة مباشرة بحرب المواقع ونقل الأحجار على رقعة الشطرنج في التنافس التركي ـ الإيراني داخل «المثلث الذهبي» الجديد الذي برز إلى العلن في السنوات الأخيرة أكثر من أن تكون جولة توسيع رقعة التحالفات أو مقدمة لولادة تكتل رباعي يضم تركيا وأفغانستان وباكستان وإيران كما يتخيل البعض.

صحيح أن أنقرة تتحرك منذ 3 سنوات على خط كسب باكستان وأفغانستان إلى جانبها ضمن تنسيق ثلاثي أمني وتجاري، وصحيح أن طهران أيضا تحركت في الاتجاه نفسه أخيرا ضمن خطة تعاون مع إسلام آباد وكابول، لكن المراهنة على جمع هذا الرباعي تحت خيمة واحدة هو أمر مستبعد، لا، بل مستحيل وسط هذه الظروف والمعطيات. فحتى لو طرحت أنقرة مثل هذه البادرة وقبلتها طهران على مضض فإن إسلام آباد وكابول اللذين جمدا أخيرا التنسيق مع إيران لن يقدما على خطوة تغضب الغرب وواشنطن تحديدا.

لا، بل إن حكومة العدالة والتنمية نفسها التي تصر على الإمساك بأكثر من ورقة إقليمية في علاقاتها مع الغرب تلوح بها كخيارات وبدائل تسهل لها الالتحاق بالمشروع الأوروبي، لن تغامر بإغضاب أميركا عبر محاولة بناء تحالفات وتكتلات لا تحظى بدعم ورضا واشنطن، خصوصا أنها تعرف تماما حاجتها إلى وقوف أميركا إلى جانبها في التعامل أكثر من خطة تحرك وانفتاح سياسي داخلي بدأته مع القضية الكردية وتتابعه في الموضوع الأرمني، وهي تحاول توسيع رقعته ليشمل إزاحة العقبة الأكبر التي تعترض طريقها، حاجز المؤسسة العسكرية الواجب عودتها إلى ثكناتها وإفساحها الطريق أمام المسار الديمقراطي.

بإيجاز أكثر، التحرك التركي هذا يندرج ضمن خطة تباركها وتدعمها واشنطن وتتابعها عن قرب بعدما أقنعتها أنقرة بلعب أوراقها هي كخيار بديل للفشل الأميركي في باكستان وأفغانستان وتراجعه يوما بعد الآخر أمام التقدم الإيراني.

ما إن هنأ أردوغان البرلمان الباكستاني وأشاد بإصراره على المضي في عملية حماية الدولة والكيان في مواجهة كل التهديدات والمخاطر حتى ارتفعت أصوات الضرب على الطاولات والمقاعد لتصدح في المكان ولتترك رئيس الوزراء التركي في حالة من الحيرة والارتباك، فما الذي قاله ليغضب نواب الشعب الباكستاني على هذا النحو؟ هو اكتشف لاحقا أن ما يجري هو تقليد باكستاني ودليل دعم وتقدير لما يقال على عكس المشهد الذي عانى منه أكثر من مرة وهو يتكلم أمام المعارضة في البرلمان التركي. «المثلث الذهبي» الذي يراهن عليه أردوغان هذه المرة يختلف في الكثير من خصائصه ومميزاته التاريخية والاجتماعية عن مناطق عديدة، ومسألة فهمه والتأقلم معه وهضم ما يقول يحتاج إلى المزيد من الوقت والصبر والحذر في لعبة الكر والفر التي اختارتها تركيا لنفسها هذه المرة.

* كاتب وأكاديمي تركي