بألم شديد

TT

معظم الصحف الأميركية التي تغلق أبوابها الآن، نشأت تقريبا في منتصف القرن التاسع عشر. من سان فرانسيسكو في الشمس إلى ديترويت في ضباب المصانع. والظاهرة الأعمق ليست غياب الصحف بل إن المدن الأميركية فقدت روحها وعاداتها القديمة وانتقلت إلى الضواحي، قاطعة علاقاتها بما كان ذات يوم «وسط المدينة» ومسارحها ومركز البريد ومحطة القطار، وتلك الأشياء المشتركة بين الناس التي كانت تعبر عنها الجرائد.

تختلف أزمات الصحف حول العالم وتتشابه. بالنسبة إليّ كانت «الموند» لسنوات طويلة، «أفضل» الصحف. كنت أنتظر موعد صدورها في باريس لأعرف ـ وأفهم ـ أخبار المنطقة. وما كنت أفتقده من ثقة وجهد وموضوعية في الصحف العربية، كنت أجده في «الموند». قبل أسابيع كان العنوان الرئيسي في «الموند» عن مؤتمر النحَّالين في مدينة تولوز. فقدت «الموند» تقاليدها، بالتحول إلى صحيفة محلية باردة، وأفقدتني تقاليدي في العدو نحو بائع الصحف كل ساعة ثانية بعد الظهر. وقد كان آخر ما حدث من رومانسيات «الموند» أن الجزائري الذي يبيع أعدادها لرواد مقهى «الدوماغو» أصدر كتابا حول تجربته في بيع أشهر صحيفة باريسية على أشهر رصيف على أشهر بولفار في أشهر مقهى. ولم يلق الكتاب رواجا.

ثمة زمن يتغير في كل مكان. الصحف «المربحة» في بيروت الآن هي صحف الإعلانات المبوبة التي توزع مجانا. أي صحف الخدمات المباشرة والمجانية. أما الصحف الكبرى والقديمة فهي تعاني من أزمات حادة. يتغير القارئ فتتغير المدينة والصحيفة. هناك صحيفة فرنسية واحدة في لبنان، عمرها حوالي 80 عاما، لا تزال تكافح من أجل البقاء. في الستينات كان هناك حوالي أربع صحف، مسائية وصباحية، بالفرنسية، وكانت «الأوريان» تبيع أكثر من معظم الصحف الصادرة بالعربية.

المجلات السياحية والأدبية والجدية فقدت أيضا مواقعها وربما استمراريتها. مضى زمن كان القارئ يقف على أبواب المطابع ليحصل على نسخته. حتى بائع الصحف فقد اهتمامه لأنه فقد ربحه. وكانت أصوات الباعة تملأ أماكن التجمع والتحرك في بيروت، وأمام كل مقهى كان ثمة بائع يبيع الصحف أو «يؤجرها». وهذه مهنة انقرضت، أو على وشك أن تنقرض. وكان صاحب الصحيفة يطلب رضا كبير باعة الصحف ويدللـه ويصور لقاءاته معه. والآن هذا زمن للذكريات. الصحافيون يتغيرون والصحافة تتغير والقارئ يتغير والبائع يبحث عن مهنة يعيش منها. بيع الصحف لم يعد يؤمّن رغيفا.