العمل لا الكلام وراء استقرار عمان

TT

بدأت بريطانيا عامها السياسي الجديد بإلقاء جلالة الملكة إليزابيث الثانية خطاب تحديد الخطوط العامة لبرنامج الحكومة أمام مجلسي البرلمان في قاعة اللوردات الأربعاء 18 نوفمبر (تشرين الثاني).

عمان المتمتعة باستقرار يحسدها عليه معظم بلدان المنطقة، بدأت عامها السياسي الجديد الاثنين 16 نوفمبر بخطاب رئيس الدولة، السلطان قابوس بن سعيد أمام مجلسي الشورى والدولة بتحديد سياسات الحكومة، ليس في العاصمة مسقط، وإنما على بعد 140 كيلومترا منها في حصن الشموخ بولاية منح. إشارة رسمية إلى توزيع الاهتمام على البلاد كلها.

العام السياسي هو الأخير لحكومة بريطانيا العمالية التي تسابق الزمن لتنفيذ برامج خيبت أمل الناخب في تنفيذها؛ ولذا تحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل أن تتحول خسارتها لانتخابات مايو (أيار) القادم إلى زلزال تنشق فيه الأرض فتبتلع العمال كما حدث بعد خسارتهم انتخابات 1979 واختفائهم من الأرض السياسية لـ18 عاما.

العام السياسي العماني هو الأخير في خطتها الخمسية الحالية للانتهاء من مشروعات كثيرة استعدادا لبدء الخطة الخمسية التالية في نهاية عام 2010 والتي تتضمن مشروعات طموحة كبناء مطارات جديدة وإحلال الإنترنت محل البيروقراطية.

عمان تسير بثقة دون تسرع؛ فالمواطن العماني لا يعاني خيبة الأمل التي أصابت البريطاني الذي زادت الأزمة الاقتصادية المالية طينه بلة بسوء إدارة حكومة غوردن براون وإغراقه المملكة في ديون سيستغرق دفعها جيلا بأكمله.

المواطن والمواطنة في عمان يمارسان أي عمل كسائق تاكسي أو جرسون أو بواب في الفندق، ولا يترفع عنه فيتركه لعمالة «مستوردة» بل يفتخر بأي عمل شريف، وبالتالي يساهم باليد والعقل والقلب في زيادة الثروة الوطنية لبلاده بدلا من تصدير معظم مداخيل العاملين للخارج (كحال العمالة المستوردية).

والعماني وطني دون تشنج يحتفل بالعيد 39 للسلطنة كعيد قومي اجتماعي تصادف مع احتفالات عيد الأضحى.

لم أزر عمان لعدة سنوات، حيث تصادفت تغطيتي للعراق وأفغانستان (ضمن المجموعة التي تصاحب زيارات رئيس الوزراء البريطاني للخارج) في عامين متتاليين افتتاح مجلس الدولة؛ وفي العام الماضي أوصلتني حادثة الإصابة في العمود الفقري للمستشفي بدلا من مطار مسقط لتغطية قمة مجلس التعاون الخليجي.

اكتشفت تلهف كل مواطن عماني صادفته على مساعدتي عندما يلمحني أتوكأ في ألم على عصاي، مسارعا لحمل ما بيدي أو لفتح الأبواب أو مساعدتي للجلوس أو النهوض، كما اكتشفت مدى الاستعدادات والتجهيزات في المطار والأماكن العامة العمانية لمن تعوقهم إصابة أو حالة مستديمة عن الحركة الطبيعية، مما يدل على ارتفاع مستوى العمانيين في التعامل مع ذوي الحاجات الخاصة كهدف حددوه لأنفسهم بتحضر لا يقل عن مستوى بلدان أوروبا.

ولذا ففارق أربع سنوات بين زيارتين يوضح مدى قفزات التقدم الهائلة التي حققتها عمان في كل المجالات، دون ضجيج أو تفاخر إعلامي أو حتى الشعارات التي تصاحب الأنظمة التي تلقب نفسها بشعارات كـ«التقدمية» و«الثورية» خاصة وأن تعبير الخطة الخمسية ارتبط في أذهان الكثيرين بأنظمة كالاتحاد السوفياتي الذي يرقد في مقبرة التاريخ أو نظام الدولة البوليسية الناصرية التي أدخلت مصر أربعة حروب نظامية وعددا معتبرا من الحروب الخفية وكثرت شعاراته ولم ينجز سوى رفع معدلات التضخم والبطالة وإفلاس الخزينة وخراب الحروب.

فالعمانيون كثيرو العمل قليلو الكلام، وإن تحدثوا فعن نقاط عملية ومحددة وخطط رسموها للقدرة على التنفيذ بميزانيات تضع في الاعتبار الموارد والإمكانيات.

رأس الدولة، السلطان قابوس نفسه، وهو محبوب من أعضاء المجلسين والزوار والدبلوماسيين والشعب، فصيح اللسان بليغ، وحديثه منطقي ومنظم الأفكار، ومع ذلك اقتصر خطابه على 629 كلمة، بما فيها البسملة والتحيتين للنواب والضيوف في البداية والنهاية والكلمات التقليدية، أي لخص خطة العمل الرسمية للحكومة في أقل من 600 كلمة بتركيز شديد (خطاب ملكة بريطانيا أيضا الأربعاء استغرق سبع دقائق) ضاربا المثل للشعب بأن وقته كرئيس دولة ثمين، ويعرف أن وقت ضيوفه وساسته أيضا ثمين، وخير الكلام ما قل ودل والعمل أفضل من الكلام.

ذكر السلطان المحاور الرئيسية بتركيز شديد وبوضوح ليحدد المحاور (بناء الإنسان، ورفع شأن المرأة، والنمو الاقتصادي، واستقرار سياسة خارجية معتدلة متوازنة) والتفاصيل في خطط الوزارات ولجان المجلسين اللذين يشملان نساء لبقات مثقفات.

وسواء وزيرات أو عضوات المجلسين، فهن كزملائهن من الرجال، يتحدثن للصحافي باختصار وتركيز بأرقام محددة وتفاصيل للخطة بلا ورقة مكتوبة.

ولا يجد المسؤول ـ من الجنسين ـ غضاضة في القول «لا يحضر ذاكرتي الرقم بدقة، وسأعود إليك بالإجابة».

فيوم الثلاثاء مثلا وجدت ملفا ينتظرني في الأوتيل عند عودتي بكل الأرقام التي وعدني بها وزير الإعلام حمد بن محمد الراشدي بعد أقل من ساعتين من لقائي معه.

وتقديم السفراء أوراق اعتمادهم للبلاط العماني مع تعيين السفراء الجدد جاء عشية افتتاح المجلس، وظهرت صورة سفيرة عمان إلى ألمانيا، وهي ليست سابقة، فزميلتها سفيرة في هولندا، ومن يرعى مصالح عمان في أغني وأقوى دول العالم هي امرأة خبيرة بالدبلوماسية في سفارة السلطنة في واشنطن.

وفي الخطة الحالية منحت المرأة ـ كفرد متساوٍ في الحقوق، وليس كزوجة أو أم أو ابنة ـ حق تملك الأرض والبناء. فالدستور يضمن لأي مواطن عماني الحق في تملك قطعة أرض بالمجان يبني عليها داره بقروض إسكان بسيطة الفائدة، وغير القادر تتدخل الدولة لإقراضه بفوائد لا تذكر وعلى مدد طويلة لا تستطيع البنوك العادية توفيرها.

واللوائح الاقتصادية تتيح للجميع شراء الأراضي وبلوائح مبسطة تجذب المستثمر الأجنبي بتسهيلات وحوافز جعلت الاقتصاد العماني يتقدم رغم الأزمة العالمية؛ حيث جاء السادس والعشرين في معدلات النمو العالمية والسابع بين بلدان آسيا، وهي أرقام متفوقة.

الملاحظ أيضا القفزة الهائلة في مشروع عمان الرقمية (بدأ 2006)، والذي ينهي تقريبا استهلاك الأوراق ويختصر البيروقراطية، المرض المزمن الذي تعاني منه البلدان العربية. فتجديد الباسبور أو رخصة القيادة وبقية التفاصيل التي عادة ما تستغرق أياما في طوابير الانتظار والتنقل بين المكاتب وختم الاستمارات أصبحت تتم على الإنترنت، بدءا بالمدارس، متوقعا أن تكتمل في كافة الوزارات والمصالح في نهاية الخطة الخمسية القادمة (2011 ـ 2016).

وهذا طبعا يتطلب توسعا في الاتصالات أكمل بمنح ترخيص لشركة خاصة «نوارس» لتنافس «عمان ـ تل» الحكومية في كل من المحمول والخطوط الثابتة. فالمنافسة دائما لصالح المستهلك.

والعمانيون يتنافسون بروح رياضية وأخوية عالية، لخصها الوزير الراشدي ردا على سؤالي، كمراقب من لندن، عن أي الصحف العمانية (عمان، الوطن، الزمان، والشبيبة) يمكنني الاعتماد عليها كمصدر موثوق به عما يدور في السلطنة، بقوله «الوطن عمان وزماننا الشبيبة».