الصراع بين الدولة والجماعة الثورية

TT

الجماعة الإصلاحية لا تصطدم بالدولة بهدف إزالتها بل من أجل ترشيد ما تعتقد أنه معوج فيها، أما الجماعة الثورية ـ سياسية كانت أو دينية ـ فهي تهدف إلى إزالة الدولة بما هي تجسيد لواقع الحياة حولها. وباختصار نقول إن الإصلاحي لا يطلب القضاء على الواقع بل إصلاحه، أما صاحب الفكر الثوري فهو يشعر بإدانة كاملة للواقع يدفعه للعمل على إزالته من على وجه الأرض تمهيدا لصنع واقع جديد لا يعرف ـ حتى هو ـ ملامحه.

أفكر في أن الصراع الدائر في المنطقة الآن، هو بين الدولة الحديثة ذات المؤسسات من ناحية والجماعة الثورية الدينية في الناحية الأخرى. وذلك بعد أن تكفل التاريخ ـ ربما بمساعدة أمريكا ـ بالقضاء على الجماعة الثورية السياسية في المنطقة المتمثلة في حكم صدام حسين. على هذه الخلفية أرى أن ما يحدث على الحدود اليمنية السعودية من متاعب أو للدقة عدوان جماعة الحوثيين على الحدود والسيادة، ليس إلا تجسيدا لهذا الصراع وهو ذاته ما واجهته مصر وتواجهه الآن وستواجهه من أخطار قادمة من حدودها الشمال.

صديقي مشاري الذايدي كتب مقالة تعتبر ورقة بحث مهمة للغاية عن البعد التاريخي للحوثيين، وأنهم ليسوا امتدادا للزيديين، هذا اهتمام بالأصول أما أنا فمهتم بالتركيبة النفسية للفكر الثوري بوجه عام سواء كان يستمد أصوله الفكرية من فلان بن فلان أو كارل بن ماركس. غير أنني لا أريد الوقوع في فخ التعميم، ففي الجماعات الثورية يوجد الأنفار بالآلاف، كما يوجد القادة الزعماء. وأهم ما يميز هؤلاء الأنفار هو الجهل والتعاسة والرعب من الدنيا وانعدام الكفاءة العملية بما يجعلهم في حالة كراهية للواقع الذي ترعاه الدولة بمؤسساتها وقوانينها وتقسيماتها، وهنا يظهر المخلّص، إنه الزعيم الذي سيخلصه من الحياة، تلك الحياة العاجز عن التعامل معها، ولا بأس من أن يمده بثلاث وجبات طعام، وسلاح يطلقه منفسا به عن توتره وعدوانه، ليس هذا فقط، سيمده أيضا بقضية نبيلة لكي يبعد عنه فكرة الانتحار والموت المجاني، ولأن كل العروض الفنية والسياسية أيضا في حاجة إلى ممول، لذلك يتحول الزعيم أو الزعماء إلى منتجين يلتزمون بطلبات الممول الذي تصادف هذه المرة أن كان اسمه المرشد العام الإيراني ـ آسف لصراحتي ـ بأجهزته الثورية التي تطلق النار على الشبان أو تغتصبهم في سجونها عندما يحتجون على نتيجة الانتخابات.

الممول هنا يقوم بتمويل عروضه في لبنان ومصر والسعودية والصومال وأفغانستان ومؤخرا في باكستان. هنا يثور سؤال، ما هي مصلحة الممول في تقديم هذه العروض؟

الإجابة هي: القائد الثوري يبحث عن الإشباع النفسي فقط ولا يهمه شيء آخر على وجه الأرض إلا في حالة واحدة هي أن تساعده ثقافته وعلو همته وكبرياؤه الإنساني على التحول إلى رجل دولة يعمل في خدمة الناس وليس أن تعمل الناس في خدمته، لذلك ستلاحظ أن الزمن والتجارب والفطرة السليمة كانت كفيلة بتحويل عدد من الزعماء الثوريين في إيران إلي زعماء إصلاحيين. وإذا كنا نتكلم عن أنفار وقادة في ميدان القتال فلا يجب أن يفوتنا الحديث عن السرايا المعاونة التي تحتل أماكن (معتدلة) ترسل منها الدعم المعنوي للجماعة الثورية، وهو بالتحديد ما حدث من جماعة الإخوان المصرية في بيانها الصادر في هذا الشأن.

آخر بيانات الحوثيين تكلمت عن رغبتها في التفاهم، وهو ما يحدث من الجماعة الثورية في حالة واحدة فقط هي أن توجه إليها ضربات عسكرية قاصمة تدفعها إلى إعادة التفكير فيما تفعله بعد أن اكتشفت صعوبة المهمة التي قامت بها بل استحالتها، وأن الخسائر الفادحة فقط هي ما ستتمكن من تحقيقه. هذه هي مشكلة التطرف بوجه عام، المتطرف عاجز عن إجراء الحسابات التي تمكنه من معرفة عاقبة ما يفعله إلا بعد أن يتورط في فعله.

نتيجة المعركة في السعودية ومصر محسومة، لا أمل للجماعة الدينية في الداخل أو القادمة من الخارج في النيل من الدولة ناهيك عن القضاء عليها. ومن المؤكد أن نشاطها سيظل محصورا في عمليات الإزعاج فقط، وهنا تكون مهمة الدولة هي أن تسرع في إيقاعاتها من أجل صنع حياة تتعلم فيها الناس تعليما لا يبتعد بهم عن مهمتهم الأساسية وهي إعمار الأرض، وبذلك يتم تحصينهم ضد التعاسة التي تجعل منهم ضحايا محتملين لقادة ثوريين كارهين للحياة و عاجزين عن العمل السياسي.

قوة الدولة هو ما أطلبه لهزيمة كل أنواع النصب الثوري، وقبل أن تسرح بعيدا في التفكير في قوة أجهزتها العسكرية والأمنية مع اعترافي بأهمية ذلك وحتميته، غير أنني أرى أن قوة الدولة تكمن وتتجلى في احترامها لحقوق الإنسان الفرد وهو ما نسميه العدل، على كل مؤسسات الدولة أن تعمل على أن يتحقق الفرد في مجال عمله في ظل ثقافة تمجد العمل وإثراء الحياة وهو ما لن يتحقق إلا بوضع الرجل المناسب والمرأة المناسبة في كل المواقع الحاكمة.

من السهل هزيمة الحوثيين، الأصعب من ذلك هو الحرص على عدم ظهور حوثيين جدد في المنطقة العربية.