«الزار» العربي

TT

فيلم عربي أبطاله كثر ولكنه، بشكل أساسي، مبني على سيناريو هابط يصور الهياج الإعلامي والشعبي لمباراة في كرة القدم بين دولتين عربيتين، واحدة كانت رمزا للكفاح والنضال ضد العدو الصهيوني ورائدة في مجالات العلم والتنوير، والمقصود هنا هو مصر، وأخرى دولة حاربت ضد الاستعمار الفرنسي وقدمت أروع شاهد في المقاومة حتى باتت تعرف ببلد المليون شهيد، والمقصود هنا طبعا الجزائر. ولكن الفيلم أبى إلا أن يتحول إلى كوميديا سوداء هابطة ولتتحول المناسبة الرياضية لتأهيل ممثل «يتيم» للكرة العربية في المناسبة الرياضية الأهم: كأس العالم بجنوب أفريقيا، تتحول إلى مناسبة للانتقام ولإظهار الغضب، وبدأت الشرارة حينما تعرضت حافلة المنتخب الجزائري للاعتداء بالقاهرة (وتضاربت الأقوال بين الادعاء بالضرب من الجمهور على حافلة اللاعبين وبين الإتلاف للحافلة من الداخل)، ولكن المؤكد أن الحافلة لم تلق الحماية الكافية لأن مشاهد الكاميرا كانت تظهر ملاحظة الجمهور للاعبين، ولكن ما حدث عقب المباراة من انفلات بحق الممتلكات والأفراد المصريين في الجزائر هو أمر لا يمكن تبريره أبدا.

قد بدأ الموضوع يصور بأنه مذبحة ومعركة ورد اعتبار والأخذ بالثأر، وكل ذلك كان يحدث دون تدخل سلطات الجزائر الأمنية حتى وصلت الأمور إلى ذروتها وحدثت التداعيات المؤسفة والاعتداءات العنيفة في الخرطوم عقب المباراة الفاصلة وسط انفلات أمني واضح. من المؤكد أن اختيار الخرطوم لإقامة مباراة من هذا النوع هو اختيار خاطئ، فالسودان بلد في حالة حرب أهلية في جنوبه وفي إقليم دارفور ولديه من التداعيات الأمنية ما يكفيه، مع العلم أن تاريخ العلاقات الرياضية بين الجزائر ومصر هو تاريخ مليء بالتوتر والقلق والدراما أصلا، فهو بالتالي بحاجة «لمكان» أكثر قدرة وجاهزية على التعامل مع الحدث وإعداد ما يجب له. وكان الأجدى أن تكون جنوب أفريقيا هي المكان الأنسب للاختيار لأنها تعد العدة لاستقبال المونديال نفسه وهي التي انتهت للتو من استقبال بطولة العالم للمنتخبات. مصر تعاملت مع الأحداث بمبالغات عاطفية وتجييش غير مبرر للمشاعر من قيل البعض أدى إلى «فورة» هائلة للناس حتى صورت الأمور بأن هذه المباراة هي الحدث الأهم وأنها مباراة «نكون أو لا نكون» (وهذا للعلم عنوان حقيقي لإحدى الصحف وهي تصور أهمية وخطورة المباراة على البلد ككل!)، ولذلك كان الكل متوترا ومتشنجا. أما الجزائر، ومع شديد الأسف، فإن الأحداث تعكس عند البعض صورة نمطية للعنف خصوصا بعد الأحداث العنيفة التي عاشتها الدولة من جراء الاقتتال البيني بين الجماعات المتطرفة والدولة. هكذا يصل الناس للاستنتاجات جراء ما يرونه من مشاهد وما يحللونه من وقائع. الجسر العربي مليء بالثقوب، والشعارات المرفوعة مليئة بالعيوب.. الفيلم الجزائري ـ المصري الأخير يعيد كشف اختلالات رأيناها إبان احتلال الكويت وإبان الفترة الناصرية وإبان الخلافات السورية ـ اللبنانية والخلافات المغاربية والخلافات الخليجية، هناك رواسب شديدة العمق وطالما استمر التعاطي معها بشكل مبسط سرعان ما تعود للظهور وتستمر في إحداث التوتر الذي شاهده الجميع. إنه «زار» مفجع سيستمر حتى يخرج «عفريت» الخلاف من الجسد العربي..

[email protected]