عندما تسقط جدران التاريخ

TT

احتفلت العواصم الغربية بذكرى مرور عشرين عاما على «سقوط جدار برلين»، الذي أصبح رمزا أو تسمية أخرى، لسقوط الأنظمة الشيوعية في العالم ولانتهاء الحرب الباردة بين الغرب والشرق. وهي حرب تلاعبت بمصائر كل شعوب العالم وجعلته يتأرجح، طوال أربعين عاما ونيف، فوق هاوية حرب نووية. وإنه لمن حق الدول والشعوب الغربية أن تحتفل بانتصار فلسفتها السياسية الرأسمالية الديموقراطية، التي حملت إليها الازدهار الاقتصادي والتقدم التكنولوجي، على الفلسفة الماركسية ـ اللينينية الاشتراكية، التي حولت الحكم إلى دكتاتورية الحزب الواحد والزعيم الأوحد، وحرمت الإنسان من الحرية والملكية والأمل والرجاء.

غير أن هذه السنوات العشرين التي تلت سقوط حائط برلين، كانت حافلة بالأحداث التي دلت على «أن التاريخ لم ينته»، وعلى أن البشرية لم تنج من حرب باردة ثالثة، بعد حربين عالميتين ساخنتين، إلا لتجد نفسها أمام خطر «حرب بين الحضارات»، و«حرب على الإرهاب»، بالإضافة إلى أزمة اقتصادية ومالية عالمية، هزت قواعد ما يسمى بالاقتصاد الرأسمالي الحر. وما إفلاس كبريات المصارف والفضائح المالية التي رافقتها، وما حدث في نيويورك، في 11 سبتمبر، وما يدور من معارك وحروب صغيرة في باكستان وأفغانستان والعراق واليمن والصومال وغيرها، لا يدعو إلى الاحتفال والابتهاج. بل ينذر بأن العالم مقدم على مغامرات وتجارب عنف جديدة ومتواصلة. هذا ولم نذكر مخاطر حرارة الجو وتلوث البيئة ونضوب المياه التي يجمع العلماء على أنها قادمة وأن خطرها قد يكون أكبر على البشرية، من الحروب.

نعم، إن العالم تغير كثيرا في السنوات العشرين الأخيرة. اتحدت الدول الأوروبية التي تحاربت قرونا. وارتفع عدد الدول الأعضاء في الأمم المتحدة إلى ما يقارب المائتين. وحول التلفزيون الفضائي والإنترنيت والهاتف الجوال، العالم، فعلا وواقعا، إلى قرية كبيرة. وتداخلت مصائر ومصالح الشعوب والدول بشكل لم يكن يتصوره أحد. فمن كان يتصور، مثلا، توظيف الصين (وهي لا تزال مبدئيا محكومة من الحزب الشيوعي) فائض دخلها في سندات الخزينة الأميركية؟ ولكن ما لم يكن منتظرا، مع دخول البشرية قرنا جديدا من عناوينه التوحد والتعاون، هو هذا التفكك المتواصل والمتفاقم في جسم العالمين العربي والإسلامي. على مستوى الأنظمة، بل داخل المجتمعات والفكر السياسي والأماني الوطنية. صحيح أن فشل المشروعين، القومي والاشتراكي، في تحقيق الحلمين الكبيرين، ونعني تحرير فلسطين وتوحيد الأمة، دفع قسما كبيرا من الأجيال العربية والإسلامية الطالعة إلى الارتماء في أحضان الدعوات والحركات السياسية الدينية لا سيما تلك التي اختارت العنف والإرهاب سبيلا «للجهاد»، وأن ذلك أدى إلى إعلان الدول الكبرى في العالم الحرب على «الإرهاب الدولي» وهي تسمية أخرى للعمليات التفجيرية التي تقوم بها هذه التنظيمات، وراء شعارات إسلامية، على تلك الدول ومصالحها وعلى الأنظمة الحاكمة في الدول العربية والإسلامية. وكأنما الحرب على الإرهاب الإسلاموي، أو «بين الحضارتين الغربية والإسلامية»، حلت، اليوم، في نظر العالم، محل الحرب الباردة، بين الشرق والغرب، سابقا، وامتدت إلى حروب أهلية كبيرة وصغيرة، تمزق، اليوم، أو غدا، أجسام الدول العربية والإسلامية. وآخرها ما نشاهده في اليمن والسودان وأفغانستان والصومال وفي فلسطين.

لقد فتح سقوط جدار برلين أمام الشعب الألماني فرصة التوحد والنهوض بوطنه إلى حيث هو اليوم في مقدمة الدول الصناعية والغنية. بينما أقامت إسرائيل جدارا عازلا حولها ضاربة كل مشروع للسلام بينها وبين الفلسطينيين والعرب. ولقد حفر الفلسطينيون والعرب والمسلمون، خنادق تفصل بينهم أو متاريس يتقاذفون من ورائها النيران والتهم. وما كان أغناهم عن ذلك لو أنهم اتعظوا بأمثولة ألمانيا واليابان وانصرفوا إلى بناء المستقبل بدلا من البكاء على الأطلال وتحميل «الآخرين» مسؤولية ما يصيبهم من نكسات أو مصائب.