قانون الانتخابات ونفق النقض

TT

في مناسبتين كنت انتظر فرصة للكتابة على موقف مع السيد طارق الهاشمي، نائب رئيس الجمهورية العراقي، آخرهما كدت أن أكبر موقفه، في مقالتي للأسبوع الماضي، حول إقرار قانون الانتخابات، في اكتفائه بالتحفظ في رسالته حول القانون وعدم ذهابه إلى النقض مما لا يعيق إمرار القانون وإجراء الانتخابات، بما يعنيه من تصرفه كرجل دولة متقبلا خسائر جزئية على مستوى الجهة السياسية، التي انضم إليها، على أن لا يخل بمواعيد تداولية السلطة كونها يجب أن ترتقي بمصاف المواعيد المقدسة، لكون أن ديمقراطيتنا، من جهة، وهي الوليدة، تحتاج للتراكم وثبات الأعراف، وإلى قطع الطريق عن التأسيس ولو لأيام بسابقة التمديد، ومن جهة أخرى فإن قدسيتها تتأتى من أنها عمدت بدماء غالية، ومنها دماء ثلاثة من إخوة الهاشمي نفسه، والفرصة الثانية رسالة أرسلها لي حول مقالتي هنا قبل شهرين المعنونة «الأسوأ من المحاصصة»، حول انتقادي موقف رئاسة الجمهورية في الأزمة مع سورية، بعد تفجيرات الأربعاء الدامي، لافتراقها وتناقضها مع موقف الحكومة، مما اعتبرته إضعافا للموقف العراقي، حيث بموضوعية عالية اتفق مع استنتاجاتي، إلا أنه أخذ علي بعتب رفيع كوني «متابع للمشهد العراقي، بل في قلبه» «ولا أكتب إنصافا ومسؤولية لما تعرض له مجلس رئاسة الجمهورية على مدى السنوات الماضية من تهميش وتجاهل، مما أفقد ثقة المواطن بهذا الركن من السلطة التنفيذية»، إلا أنه للأسف فإن كتابتي اليوم لم تذهب إلى إي من الاتجاهين، بل تذهب اتجاها ثالثا لم أكن أريده، لكن لا أستطيع تجاهله، لكونه أدخل الوضع السياسي في نفق، إذ لم نستطع تداركه بتساومية عالية وعاجلة، فإنه سيهدد عمليتنا السياسية بخسائر أوضحها انكشافها بافتقادها للشرعية.

نقض فقرات من قانون الانتخابات يمكن صرفه إلى مبررات ثلاثة، الأول لعدم دستورية القانون، أو لخلاف بعض فقراته مع الدستور، أو لإخلاله لقاعدة التوافق بين المكونات الرئيسية، أو لدوافع سياسية، لا أدخل ولن أضيف مزيدا في الجدل بأن القانون لم يكن يناقض الدستور، الذي اكتفى بالنص في مسألة الانتخابات على نسبة التمثيل وكوتة النساء، التي أخذت بالقياس وليس بالنص، أما إخلاله بقاعدة التوافق فإن مجلس الرئاسة، والذي ثبت الدستور وجوده لدورة واحدة بقيادة ثلاثية، أريد به تضامن لمصالح المكونات من الناحية الفعلية، وأيضا كبديل مؤقت عن مجلس الاتحاد، والذي عادة دوره في البرلمانات التي تأخذ بنظام المجلسين هو الحيلولة دون صدور قوانين متعجلة أو مخالفة للدستور من المجلس الأول، ولضمان مصالح المكونات الإدارية للاتحاد سواء أقاليم أو محافظات، لذا فحق النقض الذي أتيح فضلا عن أعلاه فإنه يستخدم عندما تمس المصالح العليا للمجموعات التي يتألف منها المجتمع المتعدد، وبما أن ناخبي الخارج لا يمكن اعتبارهم من مجموعة معينة، فإن الداعي الثاني يلجأ إليه عند الإخلال بقاعدة التوافق التي ارتضتها السياسة العراقية وإن انتقاليا، لا شك أن نقض نائب رئيس الجمهورية بإرفاقه إلى جانب اعتراضه على المقاعد التعويضية، وهي بيت القصيد، بطلبه أن تكون 15 في المائة بدل 5 أرفق باعتراضين آخرين، وهما زيادة كوتة المكونات الصغيرة مسيحيين وصابئة ويزيدية، وطريقة احتساب بقية الأصوات، على أساس البقية الأقوى وليس المعدل الأقوى، واضح أن النقض أراد لكي لا يصنف بأنه سياسي، ولمصلحة كتلة سياسية، فإنه لجأ للتعمية بإدراجه الطلبين الآخرين، إذ إن كوتة المسيحيين هي مرضية وغير مسبوقة باعتراف ممثليهم، وكوتة بقية المكونات هي خلافية، إذ إن ممثليهم الرئيسين منقسمون، حيث يرفض جزء منهم زيادتها لكي لا تذهب وتستثمر من طرف مناوئ لهم سياسيا، أما احتساب البواقي، ففضلا عن أن نظام التمثيل النسبي الذي أخذ به العراق يعرف بأنه الأكثر عدلا والأقل استقرارا، فإن إضعافه مرة ثانية بطريقة احتساب للأصوات تتيح الصعود للكتل الصغيرة هو وصفة مضاعفة لعدم الاستقرار، فانتخابات مجالس المحافظات التي أجريت مطلع العام فيها ثلث المقاعد لم تصل العتبة، فلو افترضنا بأننا أخذنا بطريقة الاحتساب التي أرادها النقض فإنه يعني أن ثلث مقاعد مجلس النواب القادم ستكون لأفراد وكتل صغيرة وهذا مما سيصعب تشكيل أي حكومة، وإذا شكلت ستظل عرضة دوما للاهتزازات والإطاحة، فضلا عن أن كثيرا من دول العالم لكي توفر الاستقرار لنظامها السياسي إما تأخذ بنظام الحزبين أو بعدد قليل من الأحزاب بوضع عتبة كـ10 في المائة من الأصوات، ما لم يحصل عليها الحزب فإنه حتى لا يمثل في البرلمان، ومنها تركيا التي تجاوزت بذلك عدم استقرار حكوماتها، لذا يظل الأكثر صمودا من الدواعي هو أنه وجهة نظر سياسية استثمرت حق النقض، وازنة به قرار مجلس النواب وجاعلة من الأكثرية لا قيمة لها.

أما العدالة التي استند إليها النقض فهي نسبية، إذ من يرى العكس لأنه ليس من العدالة أن تسحب 48 مقعدا من المحافظات وتمنح مع كوتة الأقليات لمصوتي الخارج، وتجير بالنهاية لممثلين تختارهم الكتل، ولا من الناحية الواقعية من ظلم جسيم وقع على ناخبي الخارج، حيث خصهم القانون الجديد بـ8 مقاعد، في حين أن آخر مشاركة لهم لانتخابات البرلمان الحالي لم توصل إلا مقعدين فقط وبمشاركة لم تتجاوز 260 ألف ناخب، أما العدل النافع فهو أن ينصب الانشغال ومن الجميع على إيجاد ظروف ملائمة لعودتهم، وفي الاهتمام الآني برعايتهم الصحية وتعليمهم ومعاشهم في المهاجر، لا بجعل مصيرهم كأنه متوقف على مشاركة في انتخابات تنتفع منها كتل عينها على أصواتهم، أما إذا قيل إن الدول لم تأخذ بتصويت مواطنيها في الخارج كونها ليست كالعراق لا تمتلك هجرة كبيرة، فإن لبنان اقرب وأوضح مثال، فهو لا يجري انتخابات في الخارج، رغم أن اللبنانيين في الخارج هم أكثر ممن في لبنان، بل يقال تندرا إن رئيس البرازيل يحكم لبنانيين أكثر من الرئيس اللبناني، فقامت الأحزاب بتيسير مجيء الناخبين ومعروف كيف في الانتخابات الأخيرة أن ناخبي دائرة زحلة الذين جلبوا غيروا من الميزان الانتخابي.

مع ما تقدم من جدل، فإنه يظل سجاليا إذا ما أغفل المصلحة، إن قواعد اللعبة عندنا مكشوفة كما أن النظم الانتخابية عادة ما تضعها القوى السياسية مغلبة فيها مصالحها، لذا فإن هذا النقض لم يشذ عن هذه القاعدة، فنائب الرئيس تصرف كممثل لكتلة سياسية تظن أن قاعدتها الانتخابية الترجيحية تقع خارج العراق، في حين أن منافسيه يرون بأنها الموضع الرخو لاختراق خاصرتهم بالمال أو التزوير أو ضعف الضوابط أو بتدخل الجوار، فيجتهدون لحرمانه منها أو تقليل أثرها، فيما الكرد فإن هذا النقض أتاهم على طبق من ذهب فلا هم تورطوا به ولا بتبعات تعطيل الانتخابات، في الوقت الذي منحهم فرصة إعادة تصحيح اختلال يرونه في نمو المقاعد، تم على حسابهم، إنه بالخلاصة نفق آخر تدخله السياسة العراقية تمتحن فيه قدرتها التساومية والنجاة.