خارطة طريق رام الله نحو إقامة الدولة

TT

عند النظر إلى هذه المدينة، يمكنك تخيل الصورة التي قد تصبح عليها دولة فلسطينية في يوم من الأيام حال التزام المعنيين بهذا الأمر بالجدية اللازمة إزاءه: الشوارع نظيفة وتنتشر مشروعات التشييد والبناء في كل اتجاه ويصطف الجنود الفلسطينيون على جوانب الطرق. ويمكن للزائر معاينة مبان سكنية جديدة ومصارف وشركات سمسرة وتوكيلات لسيارات فارهة، بل ونواد صحية.

هذه هي «الحقائق على أرض الواقع»، حسبما يروق للإسرائيليين القول. حتى العناصر المتشددة من الإسرائيليين، بما فيهم رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، يتفقون في الرأي على أن قوات الأمن الفلسطينية شهدت تحسنا حقيقيا.

بيد أنه هنا تحديدا تكمن المأساة: ففي الوقت الذي تشهد فيه رام الله تقدما ملموسا على أرضها، وكذلك بعض مدن الضفة الغربية الأخرى، بلغت عملية السلام حافة الانهيار تقريبا. عمد نتنياهو الحذر إلى إبطاء خطواته، بينما شرع رئيس السلطة الفلسطينية المحبط، محمود عباس، في الحديث عن الرحيل عن منصبه، وحرصت إدارة أوباما على شحذ طاقاتها في محاولة لإحياء المفاوضات.

إنها ذات قصة الشرق الأوسط القديمة المثيرة لخيبة الأمل التي تدور حول الفرص المهدرة. لكن بدلا من الانسحاب، يتعين على الولايات المتحدة تقديم دفعة قوية للعملية برمتها. من جانبي، لدي مقترح مستقى من زيارتي لهذه المدينة ومحادثات أجريتها طيلة عدة أيام مع مسؤولين إسرائيليين وفلسطينيين وأميركيين: عليكم الاحتذاء بحذو سلام فياض، رئيس وزراء السلطة الفلسطينية والرجل الذي يرجع إليه الفضل الأكبر وراء التحول الكبير في رام الله. كان فياض قد صاغ خطة لفترة انتقالية لمدة عامين نحو إقامة الدولة. وينبغي على واشنطن إقرار هذا الهدف علانية، والدعوة لبداية فورية للمفاوضات حول التفاصيل.

من ناحيته، قال مارتن إنديك، الذي يترأس «مركز سابان» بـ«معهد بروكنغز» ونظم مؤتمرا على مدار ثلاثة أيام في القدس لمناقشة قضايا أميركية ـ إسرائيلية: إن «فياض فريد من نوعه، لكن خطته لا يمكن أن تصبح مستدامة من دون عملية سياسية».

ربما ترفض إسرائيل بعض جوانب خطة بناء الدولة التي اقترحها فياض، لكن ليس هذا ما ترمي إليه المفاوضات. في الحقيقة تعد هذه الخطة بديلا أفضل من المقترح الأخير الذي تقدم به حلفاء عباس ويقضي إعلان الأمم المتحدة بقيام دولة فلسطينية، الأمر الذي رفضه نتنياهو، وعن حق، باعتباره خطوة انفرادية. ومن المؤكد كذلك أنها بديل أفضل من ترك المشكلة تتفاقم، الأمر الذي لا يخدم سوى مصالح حماس، الجماعة المتطرفة المسيطرة على غزة.

من ناحيته، قال فياض: «إن ما ينصب عليه تركيزنا الآن الاستعداد لإقامة الدولة». وتعد خطته، التي نشرت منذ ثلاثة شهور، خلاصة البيانات المتعلقة بالمهام الواجب تنفيذها الصادرة عن كل وزارة على حدة من أجل توفير الخدمات الحكومية. وأضاف: «يتمثل هدفنا في ضمان أنه في غضون عامين يحظى الشعب الفلسطيني بمؤسسات قوية فاعلة».

ربما يبدو هذا الأمر بعيد المنال، بالنظر إلى ما تشتهر به السلطة الفلسطينية من فساد وانعدام فاعلية. إلا أن فياض، المسؤول السابق لدى «صندوق النقد الدولي»، شرع في تبديل مسار هذا التاريخ من سوء الإدارة نحو الاتجاه المعاكس. وقد أسهمت إعادة تنظيمه الخدمات العامة في الضفة الغربية في حدوث ازدهار هنا. رسميا، ينمو الاقتصاد بمعدل 7%، بينما يعتقد فياض أن المعدل الحقيقي ربما يصل إلى 11%.

من جانبهم، ساعد الإسرائيليون الاقتصاد من خلال إزالة 28 من بين إجمالي 42 نقطة تفتيش في الضفة الغربية. لكن بإمكانهم فعل المزيد لتيسير حركة التنقل والوصول إلى الأسواق بالنسبة للشركات التجارية في الضفة الغربية. ولا شك أن التنمية الاقتصادية خيار أقل تكلفة عن الاعتماد على القوات الإسرائيلية.

تكمن قصة النجاح الكبرى التي حققها فياض ـ والتي أثارت دهشة الإسرائيليين البالغة ـ في الجانب الأمني. عندما تولى رئاسة الوزراء عام 2007، كانت عناصر مدججة بالسلاح تجوب شوارع الضفة الغربية كيفما حلا لها. وجاء فياض ليصر على أن حكومته ستبني احتكارا للقوة، بمساعدة الولايات المتحدة وإسرائيل. وبالفعل، قدم نتائج ملموسة ترتبت على ذلك. من جانبها، مولت الولايات المتحدة تدريب أكثر من 2000 جندي، مع خطط لتدريب عدة آلاف آخرين بحلول عام 2011. أما الإسرائيليون، فبعد تردد في البداية، تخلوا للحكومة الفلسطينية عن المسؤولية عن مدن الضفة الغربية.

وعلى الإسرائيليين التحلي بالذكاء والسعي للاستفادة من هذا النجاح من خلال تقليص غاراتها داخل المدن وتوسيع نطاق مسؤولية القوات الفلسطينية. في الوقت الحاضر، عادة ما يحتاج الفلسطينيون إلى تصريح إسرائيلي للانتقال إلى خارج المدن الكبرى. وقد أخبرني مسؤول إسرائيلي رفيع المستوى أنه على استعداد للسماح للقوات الفلسطينية بالعمل بدرجة أكبر داخل القرى والمناطق الريفية، خطوة يقول فياض إنها ستمنح الفلسطينيين الأمل في إنهاء الاحتلال في نهاية الأمر.

لكن على القارئ ألا يسيء فهم مقالي، فلا تزال الأوضاع في الضفة الغربية سيئة وكارثية في غزة. وسيكون فياض محظوظا حال تمكنه من الالتزام بالجدول الزمني الممتد لعامين لبناء مؤسسات فاعلة. إذا عجز عن تقديم نتائج ملموسة، لا ينبغي على الإسرائيليين حينها اتخاذ خطوات نحو الأمام. إلا أنه في حقيقة الأمر يعد برنامجه بصيص الأمل الوحيد الذي أراه في المشهد الفوضوي الفلسطيني، مما يجعله جديرا بالدعم الأميركي.

*خدمة «واشنطن بوست»

خاص بـ«الشرق الأوسط»