أوباما والصين وأمنيات خلق وظائف أميركية

TT

أعرب الرئيس الأميركي باراك أوباما عن رغبته في تحقيق «إعادة توازن» في العلاقة الاقتصادية بين الصين والولايات المتحدة كجزء من خطته لإعادة تدوير آلة خلق الوظائف الأميركية. وفي تصريحات له في سبتمبر (أيلول) قال: «لا يمكننا العودة إلى الوراء لحقبة كان الصينيون خلالها.. يبيعون كل شيء لنا فحسب.. ولكننا لا نبيع لهم أي شيء في المقابل». ويأمل أوباما في أن يعوض مئات الملايين من المستهلكين الصينيين عجز نظرائهم الأميركيين عن العودة إلى معدلات الإنفاق الشديدة.

لكن هذا التفكير محض أمنيات. في الواقع، تتميز السوق الصينية بضخامتها ونموها السريع، فبحلول عام 2009 كانت الصين في المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة فقط فيما يخص مبيعات الحاسب الآلي، مع تمتعها بنسبة كبيرة من المشترين للمرة الأولى. وتتمتع الصين بالفعل بعدد أكبر من مستخدمي الهاتف النقال. وباستثناء السيارات الرياضية، اشترى المستهلكون الصينيون العام الماضي عدد سيارات مكافئا لما اشتراه الأميركيون (عام 2006 اشترى الأميركيون ضعف عدد السيارات التي اشتراها الصينيون).

حتى في الوقت الذي تقدم الحكومة الأميركية إعانات مالية لإنقاذ شركتي «جنرال موتورز» و«كرايسلر»، شهدت مبيعات الشركتين في الصين ارتفاعا شديدا، حيث كشفت الأرقام، على سبيل المثال، أن مبيعات «جنرال موتورز» ارتفعت بمقدار 50% هذا العام عن العام السابق. علاوة على ذلك، تتمتع «بروكتر آند غامبل» بمكانة كبيرة داخل الصين لدرجة أن الكثير من الصينيين يحسبون أن منتجاتها (مثل معجون الأسنان (كريست) بنكهة النعناع) تنتمي إلى علامات تجارية صينية. إذا استمر الاقتصاد الصيني في النمو عند أو بالقرب من معدله الراهن وبدأت فوائد النمو في الانتشار بين 1.3 مليار مستهلك صيني، فستصبح البلاد أكبر سوق تجارية في تاريخ العالم، وسيقود الصينيون حينئذ أكثر من مليار سيارة، وسيشكلون أكبر كتلة مشترين للأجهزة الإلكترونية المنزلية والملابس والأجهزة الكهربائية، وتقريبا كل شيء آخر يجري إنتاجه على ظهر الكرة الأرضية.

إذن، هل سيعني ذلك خلق ملايين فرص العمل للأميركيين بمجال التصدير؟ لا. في واقع الأمر، تتحرك الصين في الاتجاه المعاكس لمسألة «إعادة التوازن». فلا تزال القدرات الإنتاجية لبكين في تنامٍ شديد، لكنّ المستهلكين الصينيين يحملون إلى منازلهم نسبة آخذة في الانكماش من إجمالي الاقتصاد. في العام الماضي شكل الاستهلاك الشخصي في الصين 35% فقط من إجمالي اقتصاد البلاد، ومنذ قرابة 10 سنوات بلغ الاستهلاك نحو 50%، وفي المقابل ارتفعت استثمارات رأس المال إلى 44% من 35% على امتداد عقد.

حاليا، يتحرك إنفاق رأس المال الصيني نحو تجاوز نظيره الأميركي، لكنّ المستهلكين الصينيين ينفقون بالكاد سدس ما ينفقه الأميركيون. تعمد الشركات الصينية، من جانبها، إلى توجيه أرباحها المتنامية نحو بناء مزيد من القدرة الإنتاجية، في صورة مزيد من المصانع والمعدات والتقنيات الجديدة.

الملاحظ أن حزمة التحفيز الاقتصادي الصينية الهائلة البالغة قيمتها 600 مليار دولار جرى توجيهها نحو جهود توسيع نطاق القدرة الإنتاجية الصينية بدرجة أكبر، بدلا من الاستهلاك.

والتساؤل الآن، ما الوجهة التي ستقصدها هذه القدرة الإنتاجية إذا لم تكن المستهلكين الصينيين؟ والإجابة هي الصادرات إلى الدول الأخرى، خصوصا الولايات المتحدة وأوروبا.

في هذا السياق جرى طرح الكثير من التفسيرات لبخل المستهلكين الصينيين. جدير بالذكر في هذا الصدد أن شبكات السلامة الاجتماعية لا تزال غير مناسبة، الأمر الذي يضطر الأسر الصينية إلى تغطية نفقات الرعاية الصحية والتعليم والتقاعد. تفوق أعداد الشباب الصيني من الرجال نظراءهم من الفتيات بفارق ضخم، لذا يتعين على الأسر التي لديها أبناء ذكور جمع وادخار أصول كافية للتنافس في سوق الزواج. والملاحظ أن المجتمع الصيني يشيخ سريعا بسبب القيود الشديدة التي فرضتها الحكومة على النمو السكاني طيلة ثلاثة عقود، مما ترتب عليه تحمل الأسر عبء إعالة الكثير من كبار السن.

بيد أن التفسير الأوسع لاقتصاد الصينيين في النفقات أن الأمة الصينية برمتها يقوم توجهها على الإنتاج، وليس الاستهلاك. الواضح أن الصين ترغب في التحول إلى الدولة الأولى عالميا في الإنتاج. كما تود احتلال المقدمة في إنتاج تقنيات متطورة. ورغم أن الولايات المتحدة ترغب في الاحتفاظ بالريادة على هذا الصعيد، فإن اقتصادنا موجه عامة نحو الاستهلاك، وليس الإنتاج.

في لب ضميرنا الوطني يكمن الافتراض بأن الهدف الرئيسي لاقتصادنا توفير مزيد من الفرص للاستهلاك. ولا نبدي حماسا تجاه الجهود الحكومية لإعادة بناء البنية التحتية. ورغم رغبتنا في استثمار الشركات في معدات وتقنيات جديدة، فإننا نود أيضا أن تدفع أرباحا سخية.

إننا نوافق على استثمار حكومتنا في جهود البحث والتطوير الأساسية، لكن ذلك يأتي في المقام الأول انطلاقا من الرغبة في جعل البلاد أكثر أمنا عبر تقنيات عسكرية متطورة. (وننظر إلى امتداد هذا الأمر إلى القطاع الخاص باعتباره أمرا عرضيا).

على الجانب الآخر، تبدو السياسة الصناعية والتقنية الصينية واضحة تماما، فهي تسعى وراء المعرفة الأميركية، والسبيل الأمثل للحصول على المعرفة هو الاتصال المباشر. وعليه، تستمر بكين في جعل الكثير من مبيعات الشركات الأميركية والأجنبية داخل البلاد مشروطة بإنتاج السلع داخل الصين، غالبا في مشروعات مشتركة مع شركات صينية.

تعمل الشركات الأميركية الآن على مساعدة الصين على بناء بنية تحتية «ذكية»، تتعامل مع مشكلة التلوث عبر تقنيات نظيفة، وتطوير جيل جديد من الخلايا الشمسية وتوربينات الرياح، والتوصل إلى تطبيقات جديدة للتقنيات متناهية الصغر، وبناء طائرات نفاثة تجارية ومحركات لها.

من جانبها، أعلنت «جنرال موتورز» مؤخرا عزمها إنتاج سيارة صغيرة جديدة في الصين مصممة ومطورة بصورة رئيسية من جانب «بان إيجا تكنيكال أوتوموتيف سنتر»، وهو عبارة عن مشروع مشترك بين «جنرال موتورز» و«سايك مورتور» في شنغهاي. من ناحية أخرى تقوم «جنرال إلكتريك» بإنتاج مكونات لتوربينات الرياح في الصين. وفي وقت سابق من هذا الشهر، أعلنت «إيفرغرين سولار» نقلها إنتاجها من الألواح الشمسية إلى الصين.

إضافة إلى ذلك، ترغب الحكومة الصينية في خلق مزيد من الوظائف داخل البلاد، وستستمر في الاعتماد على الصادرات. كل عام يتدفق عشرات الملايين من الصينيين الفقراء على المدن الكبرى قادمين من المناطق الريفية سعيا للحصول على فرص عمل ذات راتب أفضل. وحال فشلهم في العثور على مثل هذه الوظائف، ستواجه الصين مخاطرة اندلاع أعمال شغب واضطرابات أخرى. تعد الاضطرابات الكبرى أحد أكبر المخاطر التي تواجه النخبة الحاكمة للبلاد. وعليه، تفضل هذه النخبة خلق فرص عمل بمجال التصدير، حتى لو جاء ذلك على حساب تقديم دعم لمشترين أجانب، بدلا من السماح لليوان بالصعود، وبالتالي مواجهة خطر انحسار الوظائف في البلاد.

وبذلك يتضح أن سياسة التصدير الصينية تحمل في جوهرها طابعا اجتماعيا، ومصممة بهدف الحفاظ على النظام. ورغم مناشدات إدارة أوباما ستستمر بكين في تثبيت قيمة اليوان أمام الدولار، بحيث عندما يهبط الدولار تبيع بكين اليوان في سوق الصرف الأجنبي وتضيف إلى مخزوناتها من الأصول الأجنبية كي تبقي على العلاقة الثابتة بين اليوان والدولار. بطبيعة الحال، تتكبد الصين ثمنا كبيرا جراء هذه السياسة، لكنها ترى أن الأهداف التي تخدمها سياساتها الصناعية والاجتماعية جديرة بهذا الثمن.

أما السر الذي يتكتمه جانبا المحيط الهادي في أميركا والصين فهو أن الدولتين قادرتان على إنتاج كميات أكبر بكثير عما يمكن للمستهلكين بهما شراؤه. في الولايات المتحدة تتمثل المشكلة الرئيسية في النصيب المتزايد من إجمالي الدخل المتجه إلى الأميركيين الأكثر ثراء، الأمر الذي يجعل الطبقة الوسطى قوة شرائية أضعف إلا إذا سقطت تحت وطأة ديون ثقيلة. على الجانب الآخر، تشهد الصين أيضا تناميا في انعدام المساواة، لكن المشكلة أن نصيبا متضائلا من ثمار النمو الاقتصادي يتجه إلى المواطن الصيني العادي، بينما يتجه نصيب متزايد إلى استثمارات رأس المال.

ويجابه المجتمعان خطر غياب الاتصال بين الإنتاج والاستهلاك. في الصين يتمثل الخطر في وقوع اضطرابات مدنية، وفي الولايات المتحدة يتخذ الخطر صورة ركود طويل الأمد في الوظائف والعوائد، والذي مع اتساع فجوة التفاوت في الدخول قد يخلق رد فعل ارتجاعيا سياسيا قويا.

* وزير العمل الأميركي الأسبق

* خدمة «غلوبال فيوبوينت»

خاص ب«الشرق الأوسط»