كرة القدم والوقوع في مصيدة التفاهة

TT

كان عمي سليمان العتباني، رحمه الله، من لاعبي نادي المريخ السوداني ومؤسسيه وثاني رئيس له في عشرينات القرن الماضي، فكان منطقيا أن كل جيله في أسرتنا، بمن فيهم والدي، كانوا من المتعصبين لنادي المريخ.

ما لم يكن منطقيا هو أن معظم الجيل التالي في الأسرة، أبناء ذلك الجيل المؤسس لنادي المريخ، أصبحوا من غلاة مشجعي نادي الهلال، الخصم التقليدي لفريق المريخ. والآن يبدو، لمزيد من العجب، أن أبناء الأسرة من الجيل الثالث الراهن قرروا العودة إلى الجذور المريخية.

لم تشغلني هذه المعضلة كثيرا فقد حررتني التجارب ـ وقبل ذلك المبادئ ـ من العصبيات الصغيرة، لكنني من باب التفكه الفكري ظللت أحاول العثور على تفسير منطقي لظاهرة العصبية الكروية، كيف تنشأ، وكيف تتوارث ـ أو لا تتوارث حين ينبغي أن تتوارث ـ وكيف تطبق تجلياتها على بعض الناس وتملي عليهم حياتهم، حتى أنها قد تؤدي بعض أحيان إلى حروب بين الدول. ولم يهدني تفكري إلى إجابات منطقية، فزهدت في البحث، وزهدت في متابعة مباريات كرة القدم، حتى كانت الأربعاء الماضية ليلة المباراة الأخيرة بين مصر والجزائر في الخرطوم. وما شدني يومئذ إلى الحدث وألزمني منزلي رغم مشاغلي هو أن المباراة بملابساتها الكثيرة جاوزت أن تكون حدثا رياضيا محضا إلى أن تصبح حدثا سياسيا من الطراز الأول، ومهددا لكل الأسس التي بنى عليها الحالمون من أسلافنا نظرية الأمن القومي العربي.

ومن أراد أن يشخص بعض أدواء الحياة العامة في البلاد العربية من خلال متابعة تلك المباراة سيكتشف متلازمة ثلاثية علاماتها: «الإلغاء» و«الاختزال» و«التعويض»، وهي علامات مشهورة في أدواء السيكولوجي الفردي أو الجمعي. وما ينبغي التنبيه له هو أن هذه الأدواء لا علاقة لها بكرة القدم من حيث هي رياضة محترمة، لكنها ذات علاقة بالكيفية التي تعبر بها المجتمعات عن أزماتها.

أما الإلغاء فقد تمثل في أن عمليات التعبئة التي صاحبت المباراة قد مسحت، أثناء المباراة على الأقل، تاريخ أمة عظيمة كمصر من ذاكرة النظارة أمثالنا؛ ففي لحظة لاوعي غاب عن عقول المتحمسين لنصرة فريقهم بأي ثمن المصلحون والساسة من الإمام محمد عبده على سبيل المثال لا الحصر، إلى سعد زغلول، ومن حسن البنا إلى عبد الناصر. أما علماء مصر الذين زحموا التاريخ بمناكبهم أمثال الليث بن سعد وابن منظور وجلال الدين السيوطي وطه حسين ومن في حكمهم من الأفذاذ فقد انزووا في أجواء المباراة إلى ركن قصي.

وبالمقابل غابت من نواظر المتحمسين من الطرف الآخر إسهامات الجزائريين في التاريخ وشدة بأسهم في مجالدة المستعمرين التي ألهمت الشعوب المستضعفة وقدمت لها ملحمة عظيمة من ملاحم الجهاد ضد المستعمر. هكذا غاب، أو غيب، الأمير عبد القادر الجزائري، وابن باديس، والمجاهدة فاطمة نسومر، والمجاهدة جميلة بوحريد. وبالطبع اختفى عن ناظرينا تماما علماء ومفكرون كمالك بن نبي. أما المليون شهيد فلم يعودوا أكثر من إحصائية في مكتب سجلات الوفاة. ولم يسعف العلاقات المصرية ـ الجزائرية أن قلعة بني سلامة التي كتب فيها ابن خلدون مقدمته ثم هاجر ليستقر بالقاهرة ويتولى القضاء المالكي بها ثم ليتوفى بها، هي في ولاية تيارت غرب العاصمة الجزائرية.

هكذا من خلال عملية الإلغاء المرضي غاب كل ما يجب أن يكون حاضرا في العلاقة المصرية ـ الجزائرية وحضر كل ما يجب أن يكون غائبا.

وباجتياز مرحلة «الإلغاء» بنجاح أصبحنا مهيئين للعملية التالية وهي «الاختزال». والاختزال كما في رواية جورج أورويل (1984) حيلة يلجأ إليها «الأخ الأكبر»* من أجل برمجة أعضاء المجتمع ومغنطتهم حتى يفقدوا الإرادة والقدرة على التفكير والاختيار الحر. وهذه البرمجة التي تقوم بها «وزارة الحقيقة» في دولة «أوشينيا» تعتمد في جانب منها على إلغاء المفردات اللغوية والاكتفاء بمفردة واحدة ما أمكن، حتى تختفي الظلال الدقيقة للمعاني وتتبسط المضامين إلى درجة الابتذال. وفي مباراة مصر والجزائر جرت عملية برمجة اختزلت الدولتين إلى لونين أحدهما أحمر والآخر أخضر. فمصر، بغض النظر عن رمزيتها وإسهامها، هي محض لون أحمر، والجزائر، لا يهم تفردها التاريخي وامتيازها، هي فقط لون أخضر. والأمر باختصار أمر حرب، والحرب في صميمها بين طائفتين مختزلتين في لونين، وأنت بالخيار، ويا لضخامة الخيار، بين أن تؤيد الأخضر أو الأحمر. أما وقد اخترت، فالمعركة كما في ألعاب الحاسوب معركة كسر عظم ولا مخالفات فيها.

الضلع الثالث من المتلازمة المرضية هو «التعويض» الذي يصفه علماء السيكولوجي بأنه استراتيجية يتبعها الفرد أو الجماعة من أجل مغالبة عقدة نقص ناجمة عن فشل في الوفاء بالمهمة الأصلية التي ينبغي أداؤها. فالطالب الذي يفشل باستمرار في دروسه قد يلجأ إلى استراتيجية عدوانية منظمة ضد أقرانه لإبراز تميزه العضلي. وما من شك في أن عمليات الشحن والتفريغ التي لازمت المباراة وصاحبتها قبلا وبعدا واشتركت فيها الأمة العربية، إن لم يكن مباشرة فمن منازلهم، كانت استراتيجية تعويض عن فشل سياسي كبير. فتعبئة كالتي جرت، وجرّت إليها عشرات الملايين من المشاهدين من كل عاصمة وقرية عربية، إضافة إلى عواصم وقرى أوروبية وآسيوية وأفريقية، هي تعبئة كانت تصلح لمواجهة حربية كبرى أو لقفزة حضارية عظمى.

إن الذي جرى لم يكن مشكلة تخص الحكومات وحدها، لكنه عبر عن أزمة شعوب ومجتمعات لا تدري ما أولوياتها ولا ترتيبها، دعك من أن تعي رسالتها العظيمة التي اختصت بها. وهي أزمة كان لبعض وسائل الإعلام غير المسؤول القدح المعلى في إثارتها وتزكيتها، وهي التي لعبت فيها دور «الأخ الأكبر» بامتياز.

بعض العزاء هو أن التجربة أثبتت لنا أنه على الأقل توجد طاقات جبارة في مجتمعاتنا قابلة للاستثارة، ولو أنها وجهت إلى الوجهة الصحيحة فقد تحقق النهضة المرجوة، نهضة شاملة لكل وجوه الحياة تحتل فيها الرياضة مكانها الرفيع ولا تختزل في حماسة غوغائية هي في حقيقتها تعبئة تعويضية عن نكسات الأمة. ومن أجل أن ننجز تلك النهضة علينا أن نجتنب الوقوع في مصيدة التفاهة والغيبوبة الجماعية، تماما كما نجتنب في لعبة الكرة أن نقع في مصيدة التسلل. وهذه ليست مهمة الحكومات وحدها، بل هي في المقام الأول مهمة المجتمعات والحركات السياسية والإصلاحية بداخلها.

* «الأخ الأكبر» في رواية أورويل هو كناية عن دكتاتورية شاملة وعريضة يمارسها المجتمع والدولة وأجهزة عديدة مترابطة تتحكم في أفكار الناس ومعتقداتهم وتعبيراتهم.. وهي اليوم أشبه عندي بما تمارسه بعض أجهزة الإعلام

* مستشار الرئيس السوداني ومسؤول ملف دارفور في الحكومة السودانية