لخامس مرة: طه حسين!

TT

وكان صادق الوعد. فاليوم يوم مشهود. كان طه حسين قد استضاف أندريه جيد الأديب العظيم الحائز جائزة نوبل. وقدَمَنا طه حسين لأندريه جيد الذي وقف وانحنى تحية لنا. وقدم لنا أندريه جيد: إنه الأديب الفرنسي العظيم الذي أحب الشباب طوال حياته. وأحبه الشباب. هاها.

وابتسم أندريه جيد. وكان طه حسين يشير بصراحة إلى أن أندريه عنده شذوذ جنسي يحب الشباب ويحبونه. وأندريه جيد لا يخفي هذه الخصلة وذكرها طه حسين..

واستأنف طه حسين حوارا بينهما فقال طه حسين ردا على ما كتبه بالأمس من أن الأدب قد انتعش في ظل القياصرة وانحسر وانكسر في العصر السوفياتي، وهذا طبيعي. إنما ينبت الأدب والفن في الحرية. وفى كل عصور الانحطاط في أوروبا كان الأديب والفنان مطرودا من رحمة الكنيسة والملكة. ولذلك ثار فولتير وسخر مونتيني. والذي قرأته في «ألف ليلة» هو خيال أطفال لا يخلو من أدب وفن. وحلم بعالم أفضل وأحسن. وعلى أساس هذا الخيال تطور الأدب وأصبحت «ألف ليلة» مثل الإلياذة والأوديسة مصدر إلهام الأدباء والشعراء.. وخسارة أن لا نقرأ «ألف ليلة» ونتوقف عند قصصها البديعة التي تصور عالما يحلم بعالم آخر.. وتخترع كائنات لا وجود لها. وإنما هو الخيال الذي أبدع وأثار الخيال في الأدب والفن والموسيقى. إننا لا نعرف كم عدد الأعمال التي استوحت الجمال من «ألف ليلة» ولا عدد الذين استوحوا الإلياذة..

وكان طه حسين قد أحس أنه ابتعد عن المشكلة التي جئنا من أجلها فسأل أندريه جيد: كيف تنظر إلى الشبان الذين هدمنا على أدمغتهم كل عقائدهم، ولم نعطهم بديلا عن ذلك؟

قال أندريه جيد: كأنهم عراة. كأننا ضحكنا عليهم. قلنا لهم اخلعوا ملابسكم فقد أعددنا لكم ملابس أخرى. أو اغتسلوا فلسنا في حاجة إلى طهارة الجسم والنفس.. هناك حكاية تروى في أحد كتب الشاعر جيته أن هناك كهفا للعبقرية. هذا الكهف يجب أن تدخله عاريا. وهناك شرط للدخول. والشرط هو أن من يدخل كهف العبقرية يجب أن يترك عضوا من أعضائه: يده.. رجله.. عينه.. أذنه.. وقد دخل الكهف كثيرون ولكنهم لم يفقدوا عقولهم. فقد ذهبوا وعادوا يقولون لنا. لكن شرط العبقرية أن تفقد شيئا، أن تضحي بشيء، وبعد ذلك كل شيء يهون من أجل العبقرية.. وقد هان على العظماء كل شيء إلا العقل والخيال. فليس شيئا عظيما أن يفقد الإنسان عضوا من أجل أن يكون عبقريا.. ولا بد من أن يكون مكافأة عن أي قرار كبير.. فإذا جردنا الشباب من دينهم فلا بد أن نعطيهم بديلا وإلا استحالت الحياة والفلسفة.

وكأنه أجاب عن كل ما أردنا أن نعرفه. استرحنا إلى حد كبير. فكل شيء قد قاله طه حسين في هدوء ولطف ورقة..

وكان لا بد أن نعود إلى صالون العقاد!