مقياس جديد للمدنية

TT

كثيرا ما يتحير المرء كيف يقارن بين تمدن دولة وأخرى. يعتمد الكثيرون على نموها الاقتصادي ودخلها القومي، كمّ تدفقاتها النقدية، وهو مقياس رقيع وباطل. فلو أخذنا به لأصبح العراق أعظم دولة في العالم، فلا أستطيع أن أتصور دولة تتدفق الأموال منها إلى الخارج بكل هذا السخاء كالعراق، ولا سيما بعد أن قرروا منح كبار موظفيها جوازات سفر دبلوماسية. والعراق يتفوق أيضا على كل الدول بمقاييس الذكاء الآي كيو. انظروا إلى براعتهم في تحويل ونقل ملايين الدولارات المسروقة من بلد لبلد وكأنها أكياس فستق أو لبلبي.

يعتمد آخرون على قياس التمدن بعدد السيارات أو عدد الأطباء أو الفائزين بجوائز نوبل، وينظر البعض إلى مستشفيات الدولة كمثال على تقدمها، وهذا في رأيي مقياس سوداوي؛ فالمستشفيات أماكن يموت فيها الناس. وأنا لا أحب أن أقيس المدنية بالموت، رغم شعوري بأنه مناسب لمنطقتنا.

كلا، المقياس الذي وجدته أفضل وأدق ما يمكن هو مراحيض الدولة. اكتشفت ذلك من زياراتي لشتى البلدان، ففي زيارتي للدول الاسكندنافية، لزمتني الحاجة لاستعمال مرافقها الصحية العامة (لا أدري لماذا يسمونها مرافق صحية. الأَولى بنا أن نسميها بالمرافق غير الصحية، فلو كان الإنسان صحيح البدن لما احتاج إلى مرافق عامة في الشارع ولاستطاع أن يصبر حتى يعود إلى البيت ويستعمل مرافقه الخاصة). دخلت المرفق وإذا بي أستمع إلى موسيقى ناعمة من موتزارت. وما انتهيت من قضاء حاجتي إلا ووجدت حسناء كاعب تبتسم في وجهي وتقدم لي منديلا جديدا لأنشف يدي وتدعو لي بالسلامة. قلت لنفسي هذا عز المدنية.

دعيت لإلقاء محاضرة في ألمانيا. مررت بنفس التجربة. سمعت نفس الموسيقى ولكنني افتقدت حسناء تبش في وجهي بعد المعاناة وتقدم لي منديلا نظيفا. الأمر لله، رضيت بما وجدت. الموسيقى ولا غير. هبط المستوى درجة.

في إيطاليا كلفني دخول المرفق الصحي نصف أورو ودون موسيقى، وبامرأة بدينة شمطاء تصرخ في وجهي وبيدها المكنسة كما لو أنني لم أحسن استعمال المرحاض ولا عرفت ما هي المدنية. أخذتني أسفاري إلى المنطقة العربية، وهناك تعلمت أن من الأفضل للمرء أن يتحملص ـ وهو ما فعلت ـ من أن يستعمل مراحيض عامة، أو حتى أن يراها أو يشم رائحتها.

وهو ما أوصلني إلى هذا القرار. تقاس الأمم بمراحيضها. وكذا الأمر مع فنادقها، يقيسون مستواها الآن بعدد النجوم. كلام فارغ، فلم يعد للنجوم قيمة بعد أن بال آرمسترونغ على القمر ووضع الأميركان علمهم على المريخ. ينبغي في رأيي تقييم الفنادق والمنتجعات بعدد المراحيض. وتوضع علامات بذلك. يسألك الوكيل: تبغي فندق أربعة مراحيض أم خمسة؟ لا يا سيد، النفط شوية أسعاره نازلة، اعطيني فندق ثلاثة مراحيض على قد حالنا.