لا حشيشة بعد اليوم!

TT

حينما قررت إحدى الدول في عقد الخمسينات من القرن الماضي القيام بحملة ضد الحشيش المخدر تحت شعار «لا حشيشة بعد اليوم»، قام منظمو الحملة بإشعال نار في أحد الميادين، وطلبوا من الحشاشين إحراق ما بحوزتهم، فأطعم الحشاشون يومها النار بعض ما فاض عن حاجتهم من الحشيش و«الأراجيل» الزائدة والمكسرة، ويقال إن الحشاشين اصطفوا بعد ذلك في الجهة التي تأتي منها الريح ليستنشقوا الحشيش الذي أحرقوه، وانطفأت النيران في ذلك اليوم، ولكن الحشاشين أشعلوا نيرانهم ليلا، واستمروا في تعاطي الحشيش لأن الحملة كانت تفتقر إلى الفهم النفسي لطبيعة هؤلاء. يومها كان الحشيش هو المتربع على عرش المخدرات الأسود، ولم تكن قد شاعت الأنواع الأخرى من المخدرات الأكثر خطورة.

أعرف شبابا كانوا ملء الأمل بما يمتلكونه من مواهب، وقدرات، واستعدادات قبل أن تجرفهم المخدرات لتجعل منهم أشباحا آدمية مفرغة من الطموح، والحلم، والأمنيات، حتى أن الولد الذكي في طفولتنا الذي كان يفوقنا في الدراسة، وألعاب الكرة، ومسابقات الإبداع وقع في غفلة من انتباه الأسرة والمجتمع في براثن المخدرات، وجعلها المسكين رفيقة دربه سنوات طويلة، جردته خلالها من كل شيء جميل فيه، حتى أنني حينما زرته في أحد المستشفيات بعد غيبة سنوات طويلة وهو على فراش الموت فتح تجاهي عينين ذابلتين، متعبتين، وغائرتين ليقول لي:

ـ ها أنا أخرج من الدنيا على عجل، ركبت قطارها المتهور، فأوصلني إلى النهاية سريعا!

كان وقد استعاد شيئا من نفحات طفولته ونقاء فطرتها يلوم أخته على البكاء عليه، ويطلب منها أن تسجد لله شكرا أن منحه المرض أياما لكي يغسل ذاته مما علق بها من أدران رحلة العمر ليلاقي ربه بتوبة نصوحة.

اليوم لا شيء يؤرق العالم أكثر من المخدرات، ولا شيء يقض مضاجع الأسر أكثر من أن يتورط أحد أبنائها في إدمان المخدرات، وقد أنشأت كل دولة جيشا من العاملين الذين لا هم لهم سوى مقاومة هذه الآفة، ومواجهة أخطارها، وتطورت أجهزة معالجة الإدمان في كل العالم، واستخدمت وسائل وأساليب طبية ونفسية حديثة، ومع هذا ظلت المخدرات تتدفق، وتعبر حدود الدول إلى كل أنحاء الدنيا، فخلف تجارتها دول وعصابات منظمة تتوسع في اصطياد زبائنها القادمين من البيوت المهدمة بالطلاق، والصراعات، والجفاف الأسري، فالشقاء الإنساني سلسلة مترابطة الحلقات تقود كل واحدة إلى الأخرى، وقطع الدرب على المخدرات لا تكفي فيه مراقبة الحدود، ولا علاج المرضى، ولا حتى معاقبتهم، فلا بد أن تصاحب كل تلك الوسائل بناء جدار نفسي، واق، وعازل عبر منهجية علمية شاملة ومكثفة، وذات أبعاد طبية، وأخلاقية، وسيكولوجية، فما يبذل في جوانب الوقاية والتوعية أٌقل كثيرا من حجم الخطر.

[email protected]