انتخابات العراق.. استهداف البعثيين غطاء لمؤامرة أكبر

TT

لست من المقتنعين بضرورة إعداد الدستور العراقي بتلك الطبخة التي أثارت مشكلات لا حصر لها، وفي الوقت نفسه لا أرى مسوغا لتمتع عضو في مجلس الرئاسة بصلاحية نقض قرارات البرلمان. ومع ذلك، لم يكن أمام نائب رئيس الجمهورية السيد طارق الهاشمي إلا نقض الفقرات التي هُضمت بها حقوق المهجرين في قانون الانتخابات. ولو لم يتخذ قرار النقض لارتكب خطأ تاريخيا على المستويين الشخصي والوطني، وإن اختياره أصلا لزعامة الحزب الإسلامي كان بسبب الحاجة إلى شخص بمواصفاته في مرحلة التغيير الأولى.

تعد عملية الالتفاف على المقاعد البرلمانية المخصصة لعراقيي الخارج وغالبيتهم من «المهجرين» واحدة من أخطر محطات الإقصاء والتهميش، وتعكس تصرفا يحمل صفة طائفية وفئوية من قبل بعض الأطراف التي تريد غلبة جهة على أخرى. وكلما جرى الحديث عن السلوك الطائفي ثارت ثائرة المتطرفين، لمحاولة إرغام الآخرين على القبول، ليصبح الأمر المتخلف والتآمري مشروعا والاعتراض من أجل التصحيح طائفية!

فهناك نحو مليوني عراقي في سورية والأردن وحدهما، وهذا يعني وجوب تخصيص عشرين مقعدا لهم في البرلمان، وليس المنة على أكثر من ثلاثة ملايين خارج العراق ببضعة مقاعد! وأي تفسير آخر يعد خرقا سافرا للدستور، لأنه يتعلق ببند مهم يرتبط بحقوق المواطنة، يُضعف التجاوز عليه مبررات الالتزام بالواجبات، فيتحول الدستور إلى مصدر خلافات مضافة تقود إلى معضلات كبيرة.

وبدل التعاطي الايجابي مع قرار النقض الجزئي تعرض الهاشمي لهجمات وانتقادات حادة، فيما كان من المفترض الحرص على ضمان حقوق المواطنة الدستورية والتخلي عن محاولات الاستئثار بالسلطة، وتجنب تحويل اجتثاث البعث إلى محاولة لاجتثاث نحو ثلث الشعب العراقي. وقد وُصف قرار الهاشمي بمؤامرة لخدمة البعثيين وحُمل مسؤولية إعادة الأوضاع إلى المربع الأول. وكأن المطلوب هو القفز في المربعات على حساب آخرين ليسوا مستعدين للتفريط في حقوقهم، التي يراد لها أن تهدر عمدا وفق نهج مدروس.

السؤال الذي يجب توجيهه هو: لماذا يراد حرمان المهجرين من حقوقهم؟ ويأتي الجواب مريرا حين يفسر بـ«لأنهم من شريحة يراد إقصاؤها» مما يعزز عدم مصداقية ما يقال عن المصالحة الوطنية والمشاركة الجماعية في السلطة وضمان مبدأ المساواة. وما رد الفعل السريع للمالكي إلا تعبير عن نوايا سبقها تأكيد على ممارسة ما أسماه حقه الدستوري في منع وصول البعثيين إلى البرلمان. وبما أن الوسائل العامة تحت سيطرته، فإن هيئة المساءلة والعدالة ستأخذ طريقها في حرمان من يراد حرمانه من حق الترشح للانتخابات، كما حصل في طرح منع تحالف الوحدة الوطنية برئاسة الدكتور نهرو عبد الكريم. ومن السهل أن يتهم شخص ما بقضية معينة أو ينسب إليه انتسابه إلى أحد الأجهزة والبعث. يذكر أن واحدا ممن يشغلون موقعا رفيعا في الهيئة كان قد اعتقل من قبل القوات الأميركية لعدة أشهر بعملية ليست عرضية، بتهمة علاقاته بفرق الموت كما أذيع في حينه.

ومع أن محاولات الإخلال بحقوق المواطنة واضحة، فإن المُلامين يتواجدون في أكثر جهة، أولهم الوجود الأميركي في العراق، حيث لا يعقل السكوت على هكذا سلوك خطير، في وقت تؤمّن الولايات المتحدة الدعم والحماية للنظام القائم، ويفترض الإصرار أميركيا على جداول سحب القوات. ويلام على الموقف العقلاء والوطنيون في الائتلاف الوطني (الشيعي) وفيه شخصيات عُرفت بالاعتدال. والمرجعيات ملامة لسكوتها، فيما تدخلت في جوانب أخرى من الانتخابات. ويقع لوم على «بعض» ممثلي الشريحة المستهدفة، لأنهم لم يتخذوا الخطوات اللازمة لضمان الحقوق. وهم ليسوا مخولين للتراجع عن حق المهجرين مهما كانت الضغوط والمساومات.

وكان الأجدر إقرار القانون قبل فترة طويلة. أما التحجج بالمدة الدستورية المقررة فهو مبرر غير منطقي، لأنه يبنى على أسس التفرقة والظلم. وحتى لو طالت فترة بقاء الحكومة الحالية بكل سلبياتها وفشلها الذريع «لتصريف الأعمال»، فإنها أهون من إلحاق ظلم دائم بشريحة يترك ظلمها أثرا على الأمن والاستقرار ويؤذي الشعور بالمواطنة المتساوية. وبخلاف ذلك، سيُطعن في شرعية الانتخابات، فتتكرر أخطاء إعداد الدستور تحت وطأة التطاحن الطائفي خلال فترة محدودة جدا.

ومهما تكن نتيجة الجدل والتعاطي بين المحكمة الدستورية والبرلمان والكتل السياسية ينبغي عدم نسيان تسبب نتائج الانتخابات السابقة في مضاعفة انفلات الأمن، وينبغي تفويت الفرصة على الراغبين في تكرار المآسي. أما أن يكون الاستهداف المرفوض أصلا للبعثيين غطاء لمؤامرة كبيرة، فإنه يؤدي إلى تداعيات خطيرة على مستوى العلاقات الوطنية وحالة الاستقرار، ليس من مصلحة أحد التسليم بها أو الترويج لها. فهل يفهم المعنيون أن الهيمنة الفئوية والطائفية على العراق مستحيلة؟