انقلاب أبيض في فرنسا

TT

صحيح أن السياسة هي فن الممكن والمناورة وسحب البساط والمزايدات وكل ما ينتمي إلى سجل اللعب بالأوراق وترتيبها طبقا للمصلحة وللواقع. ولكن أن يصل الارتباك السياسي إلى استبدال أوراق سياسية بأخرى أكثر خطورة وحدة ومتاهة، فإن ذلك يدعو حقيقة إلى الاستغراب، بل وإلى مزيد تنامي القلق في ظرف تحول فيه مفهوم السياسة من فن الممكن إلى فن إشعال النار وإذكاء أكثر ما يمكن من اللهيب وإثارة الحطب المتهيئ طبيعة للاحتراق.

إن ما أعلنت عنه النخبة الحاكمة الفرنسية من خلال شخص وزير الهجرة والهوية الوطنية اريك بيسون منذ بداية الشهر الجاري من فتح باب الحوار والنقاش حول تحديد الهوية الوطنية، وذلك حتى جانفي 2010، أمر يستدعي التوقف والتوجس باعتبار أنه أبعد ما يكون عن إعلان بريء النوايا والمقاصد خصوصا أنه صادر عن أعلى مؤسسات الدولة التنفيذية. ولا شيء كان سيستدعي القلق إذا كانت الفكرة أو الإعلان عنها قد صدر عن هيكل ثقافي معين أو عن مؤسسة بحث علمي تهدف إلى التعرف إلى مفهوم الهوية الوطنية لدى كل حاملي الجنسية الفرنسية.

فهو قرار يصب في سياق كامل ينتمي إليه ويخدمه ويُشكل حلقة من حلقاته والتمعن فيه يزيد في تحقيق فهم العقل الفرنسي وحقيقة نظرته للأخر.

قد يتساءل البعض حول ماهية الجريمة التي ارتكبتها فرنسا بفتحها النقاش حول الهوية الوطنية ما إذا كان ذلك يندرج ضمن حريتها وحقها؟

كان يمكن أن يكون الأمر كذلك إذا ما تم عزل هذا الإعلان عن سياقه وعن مجموعة من مظاهر التحيز ضد الأجانب. وبأكثر دقة فإن صفة «الأجانب» عباءة واسعة تتستر بها فرنسا كي لا تحدد الفئة المقصودة والمتمثلة في المسلمين.

ونفهم أكثر هذه النقطة عندما نستحضر تصريح ساركوزي في بداية الصيف الماضي، حيث رفض النقاب وقبله الحجاب، مكرسا الكثير من تدخلاته الإعلامية وتصريحاته السياسية لقدسية الجمهورية وقيمها. فكل الدلائل تشير إلى وجود حالة استنفار فرنسية ضد الرافد الثقافي الإسلامي ومحاولة إيقاف مؤشرات تغلغله في الهوية الوطنية الفرنسية، وهو تكتيك يتقاطع مع أطروحات اليمين المتطرف ويُغذي مخاوف فرنسا من تعاظم الوجود الإسلامي فوق أراضيها ويُحفز دفاعها المستميت عن المسيحية من جهة وعلى العلمانية من جهة أخرى رغم أن المظاهر الدينية التي يمارسها مسلمو فرنسا لا تتجاوز المجال الشخصي.

طبعا يمكن تفهم بعض مستندات الموقف الفرنسي في المطلق إلا أن المتأمل في اقتراحات وزير الهجرة الهوية الوطنية التي يظهر أنها سائرة بنية سياسية مثابرة نحو التجسيد بعد نهاية ثلاثة أشهر النقاش المفتوح حول الهوية الوطنية، يلحظ أن المشروع عنصري ويستهدف المسلمين أولا وأساسا ذلك أن اقتراح إنشاء عقد للاندماج الجمهوري، يوقع عليه كل أجنبي يزور فرنسا أو يقيم فيها، إضافة إلى أن منح الجنسية الفرنسية يخضع لشرطي امتلاك اللغة الفرنسية وهضم قيم الجمهورية مع التمكن من أداء النشيد الوطني الفرنسي، كل هذه الاقتراحات تنطلق من أفكار مفادها أن المسلمين في فرنسا هم خارج المتن الثقافي الفرنسي وأن مصلحة فرنسا تكمن في إيقاف تيار هجرة المسلمين الذين تزايد عددهم أكثر مما ينبغي وأصبحوا يشكلون عبئا سياسيا واقتصاديا وثقافيا على فرنسا. لذلك فإن إعلان فتح فرنسا النقاش حول الهوية الفرنسية يُخفى في باطنه حيلة سياسية أمنية للظفر بقوانين مطاطة تُتيح للسلطة حرية التصرف في النزيف الإسلامي داخلها خصوصا أنه قبل سنوات قليلة أعلنت فرنسا أنها حولت وجهتها نحو هجرة النخب والمثقفين وأصحاب الكفاءات أي الهجرة الانتقائية التي تصب في مشروعها التنموي والفرنكفوني.

المثير للانتباه أن فرنسا بدل أن تتعامل مع ملف الهجرة وملف المسلمين بموضوعية وبمسؤولية، فإنها آثرت اعتماد الحلول الأمنية الناتجة عن العقلية الناتجة عن عقلية استعمارية ما زالت تعمل في اللاوعي السياسي الحاكم.

وبدل أن تتعمق نتائج تقرير «غالوب للدارسات» ومؤسسة «التعايش السلمي» الذي أعلن عنه في مايو الماضي، فإنها رمته وراء ظهرها وركزت على الشائع من الأفكار المسبقة والسطحية. ذلك أن التقرير أفاد بأن ثمانية من عشرة مسلمين أكدوا ولاءهم لفرنسا ومن جهة أخرى أظهر ـ أي التقرير ـ أن لدى المسلمين الفرنسيين ثقة محدودة في مؤسسات الدولة وذلك لشعورهم بالتهميش. ويبدو أن ساركوزي يؤمن بأن معالجة التهميش تتم بمزيد منه.

فهل سيتحرك مثقفو فرنسا من أنصار حقوق الإنسان والهوية التي لا تعرف حدودا أم أن الأمر أكبر من ذلك ويمس ما يعتقد أنه أمن فرنسا المسيحي والعلماني المهددين؟

أغلب الظن أننا بصدد انقلاب فرنسا على ذاتها وعلى خطابها الذي لطالما تبجحت فيه مفتخرة بأن هوية فرنسا في التعدد اللامحدود وأن فرنسا فسيفساء ثقافية وإنسانية.