الاختبار الكروي للوحدة العربية

TT

منذ كنا تلاميذ في المدرسة الابتدائية وحتى التخرج من الجامعة، كنا نخرج بانتظام في مظاهرات لتأييد فلسطين مرة، والجزائر مرة أخرى، وأحيانا خرجنا من أجل دول عربية أو أفريقية، ولكن ذلك كان يحتاج أحداثا درامية مثل مذبحة في اليمن الجنوبية أو اغتيال قائد مثل لوممبا في الكونغو. وأثناء المسيرات والمظاهرات استقلت الجزائر والكونغو، ولم يعودا يحتاجان مساندات نضالية من الأشقاء حتى بعد أن تفرغا لأنواع مختلفة من الاقتتال الداخلي، أما في فلسطين فقد اختصرت المراحل فذهبت مباشرة إلى الصراع السياسي والعسكري بين أقطاب وأحزاب فلسطينية دون المرور بمرحلة الدولة.

ومع ذلك فلا ندم على ما جرى، وبشكل ما فقد وقفت الدول والشعوب العربية مع بعضها من أجل الاستقلال، وفي مواجهة الاحتلال الأجنبي والإسرائيلي خاصة. وكان هذا التراث الذي قام على قاعدة من علاقات خاصة بين الدول العربية هو الذي أثار طموحات جماعات سياسية للبحث عن مشروع وحدوي. ولكن الواقع كان شيئا آخر، فمن ناحية انتهى جيل معركة الاستقلال المشتركة، وجاء جيل الفشل التنموي، وضاق النفس السياسي للقادة والشعوب نتيجة الفارق الهائل ما بين التوقعات والواقع.

وكانت النتيجة أن الطابع الصراعي بات من الظواهر المسيطرة على العلاقات بين الدول العربية، وكانت الأداة الدعائية في الماضي والحاضر هي الوسيلة الرئيسية التي استخدمتها دول عربية في إدارة الصراعات مع بعضها، وهو ما هدد بدوره دائما بامتداد وانتقال الصراعات العربية ـ العربية من الدوائر الرسمية إلى المستويات الشعبية، على نحو ما أوضحته «الحالة المصرية الجزائرية» في صراعهما الكروي للوصول إلى مونديال جنوب أفريقيا 2010.

وهناك تعبير بديع لوزير الإعلام الجزائري عن هذه الحالة قال فيه «أتمني صعود منتخبي مصر والجزائر معا أو خروجهما معا حتى لا تكون هناك فرصة لشياطين الكراهية لدق الأسافين بين الشعبين الشقيقين». ورغم وجاهة هذا الطرح، إلا أنه يمكن الرد عليه بالقول بافتراض أن أحدهما قد فاز فهو يعني تمثيلا عربيا في المونديال، لكن الفائز الوحيد في المباراة كان طرفا ثالثا اسمه «التعصب الكروي» لم يحسب له أحد حسابا أو حاول التعامل معه من البداية إلى النهاية.

إن أحد التفسيرات المطروحة للحالة المصرية الجزائرية هو أن المشتركات التي تجمع الدول العربية ببعضها، بقدر ما تمثل أساسا للتضامن، فإنها تعبر عن رغبة كل مجتمع في المنطقة العربية للتميز والاختلاف، وهو ما يأخذ شكلا عدائيا في لحظات المنافسة. ولم تنجح المحاولات التي طرحتها مؤسسات وشخصيات إعلامية وفنية مصرية وجزائرية في تهدئة الأجواء بين الجانبين المصري والجزائري، مثل المبادرة التي طرحتها إحدى الصحف الخاصة «المصري اليوم» في مصر بتقديم «وردة لكل لاعب جزائري» وذهاب فريق إعلامي من قناة خاصة «الحياة» للجزائر لنبذ التعصب، والبيان الذي أصدره جماعة من المثقفين الجزائريين. وكذلك الحفلة التي أقيمت في القاهرة وأحياها المبدع محمد منير والشاب خالد من أجل خلق حالة من المشاركة الثقافية والموسيقية تواجه التعصب والتشدد. كما شهدت بعض المواقع الالكترونية دعوات للمصالحة ومحاربة التعصب والغلو والكراهية، لكنها ذهبت دون آذان صاغية.

والمدهش هو أن المنافسات الرياضية وخاصة في مجالات مثل كرة القدم يفترض أن تكون ساحات للتقارب والتعارف وليس للتنافر أو الصدام، على نحو ما أوضحته تجارب دولية سابقة، مثل دبلوماسية البنج بونج التي ساهمت في ترطيب أجواء العلاقات بين واشنطن وبكين في عقد السبعينات، لكن في الحالات العربية، تنعكس الخلافات السياسية على العلاقات الرياضية، وهناك سوابق تشير إلى ذلك. فقد ألغيت مباراة مصر وليبيا في إطار دورة الألعاب الأفريقية التي نظمتها الجزائر في صيف 1978، نتيجة تشابك اللاعبين بالأيدي وتدخل عناصر من قوات الأمن الجزائرية وضربوا لاعبين مصريين، وهو ما دفع رئيس الحكومة المصرية حينذاك اللواء ممدوح سالم بسحب الفرق المصرية المشاركة في الدورة. كما برزت حوادث اعتداء من جانب الجمهور الجزائري على اللاعبين المصريين في استاد عنابة عام 2001 أثناء تصفيات كأس العالم.

ولكن المسألة لم تعد كلها رياضة وتعصبا كرويا غير محمود، فثمة مؤشرات محددة على حدوث تأزم في البعد الشعبي للعلاقات المصرية الجزائرية، أو ما يطلق عليه البعض «المساس بنخاع الشعوب»، ظهر في التأثير السلبي على استقرار الكيانات الأسرية. فهناك واقعة نشرتها العديد من الصحف المصرية والعربية، وهي ابتعاد مواطنة مصرية عن زوجها الجزائري قبل مباراة القاهرة، لحدوث خلافات بينهما حول توقع نتيجة المباراة. كما رفض موظف بمصلحة عقود الزواج في بلدية الجزائر الوسطى توثيق عقد زواج مواطنة جزائرية من مصري انتظارا لنتيجة المباراة. وتعددت مسارح العمليات العنيفة، سواء خلال الفترات التي تسبق المباراة وأثناءها وبعد انتهائها، وهو ما اتضح في رشق أتوبيسات الفريقين بالحجارة من جانب «قوى متعصبة» على الجانبين. وكذلك حدثت إصابات بين جمهوري الفريقين عقب المباريات، رغم عدم توافر بيانات دقيقة حول أعدادهم. علاوة على ممارسة مشجعي منتخب الجزائر لأنماط من العنف اللفظي والمادي أثناء مغادرتهم مطار القاهرة الدولي حتى أن أربعة من الركاب المصريين قاموا بإلغاء سفرهم على نفس الرحلة المتوجهة للجزائر. وجرى استهداف للمصالح المصرية الاقتصادية الرئيسية، من خلال إحداث قطاع من الجمهور الجزائري إصابات بالغة بمقر شركة مصر للطيران وبعض شركات الاتصالات والمقاولات المصرية، الأمر الذي يؤثر على حركة تدفق الاستثمارات المصرية في الجزائر والتي بلغت 6.2 مليار دولار وكان يتوقع لها الزيادة إلى 8 مليارات دولار في العام المقبل، حيث تتصدر مصر قائمة الاستثمارات العربية في الجزائر، وتعمل في قطاعات مواد البناء والمقاولات والكابلات والاتصالات والصناعة والزراعة والخدمات، فضلا عن التأثير الذي يطول أوضاع العمالة المصرية بالجزائر والتي بلغت أعدادها 15 ألفا. فقد قام آلاف الجزائريين في ولايات العاصمة والجلفة ووهران وعنابة بالاعتداء عليهم ومحاصرة سكنهم، بما وضعهم تحت ضغط نفسي وعصبي.

وبشكل ما عكست الواقعة المصرية ـ الجزائرية ما قيل عن أن كرة القدم هي استمرار لمعارك الأمم بشكل سلمي، وعبر عن هذا المعنى المفكر جورج أويل قائلا «إن كرة القدم لا تمارس فقط لمجرد متعة قذف الكرة، بل لأنها فصيل من فصائل القتال». لكن الإعلام الرياضي، ساهم في «عسكرة» المباراة، لدرجة وصلت إلى سك تعبيرات شديدة العدائية مثل «إعلان الحرب ضد مصر» و«أن ما حدث للجزائر هو مجزرة القاهرة» و«عندما تصبح تل أبيب أرحم من القاهرة» في مانشيتات بعض الصحف الجزائرية مثل الخبر وأخبار اليوم والشروق، فضلا عن إذاعة معلومات مغلوطة ونشر أنباء كاذبة وصورا مفبركة لأحد المواطنين الجزائريين وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، وهناك من يشير إلى أن هذه الصورة قد نشرت في مناسبات مختلفة لضحايا طاحونة الإرهاب في الجزائر.

إن العلاقات المصرية الجزائرية تتسم بكونها تاريخية، ولا يعبر هذا عن كلمات رومانسية، وإنما هي حقائق واقعية. فقد تعرضت مصر للعدوان الثلاثي عام 1956 من جراء الدعم المصري المتواصل في الحقبة الناصرية للثورة الجزائرية بالمال والعتاد، حتى حصولها على الاستقلال والتحرر من الاستعمار الفرنسي في عام 1962، وصدر أول بيانات الثورة من إذاعة صوت العرب، فضلا عن الدور الذي لعبه الجيش الجزائري في مساندة مصر في حرب أكتوبر 1973، وما قدمته الجزائر من دعم مادي وتسليحي لمصر أثناء الحرب. وعلى الصعيد الفني، هناك أدوار ناعمة توازي الأدوار الصلبة، وأبرزها قيام الموسيقار المصري محمد فوزي بتلحين النشيد الوطني الجزائري الذي كتبه الشاعر الجزائري مفدى زكريا، فضلا عن دور المدرسين المصريين في استعادة الاهتمام باللغة العربية التي كان الاستعمار الاستيطاني الفرنسي يمنع التدريس بها.

ولكن كل ذلك ينتمي للماضي، أما وشائج الحاضر من علاقات سياسية واقتصادية فقد ثبت أنها لا تنفع كثيرا، وربما كانت المسألة كلها أننا نتوقع أكثر من اللازم من دول وشعوب لا يزال أمامها طريق طويل حتى تصل إلى مرحلة النضج، أم أن الموضوع كله هو كرة القدم ومصائبها؟!.