الوجهان المتناقضان للفترة الاستعمارية

TT

دعانا المركز المغربي للذاكرة المشتركة والمستقبل منذ أسبوع، إلى جلسة تأمل عن المسائل التي تطرحها ذكريات الفترة الاستعمارية. وهذه قضية تثير نقاشات عدة في البلدان المستعمرة (بالفتح) والمستعمرة (بالكسر) تتجدد بظهور جوانب معينة تكشف عنها وثائق يتم التوصل إليها، أو بوقوع أحداث تذكر بما حفلت به الفترة الاستعمارية من تقلصات، مثل الأورام السرطانية التي تفشت في منطقة الريف بشمال المغرب تعزى إلى استعمال الغازات السامة في العشرينات من القرن الماضي ضد المغاربة، أو لمجرد تناول مشكلات سياسية ناتجة عن مخلفات الفترة الاستعمارية.

ويتدخل في النقاش أكاديميون وسياسيون ومفكرون من مختلف الآفاق، يتأملون في مخلفات الفترة الاستعمارية، التي لم تنجل حتى اليوم جميع جوانبها. وقد أحدثت الفترة المشار إليها جراحا أليمة بسبب أن الاكتساح الذي قام به الرجل الأبيض في بلدان الجنوب، الذي كان عدوانا عنيفا حطم المجتمعات التي استهدفها، ونهب خيراتها واستعبد أهلها وسخر الأرض والبشر لخدمة مآرب أنانية للاستعمار الأوروبي، زيادة على تعطيل التقدم المستقل الذي كانت بصدد تحقيقه بعض بلدان الجنوب، كما هو حال المغرب وبلدان عربية وإسلامية أخرى، كانت تعاني من تدهور وانحطاط، ولكنها كانت بصدد إقامة هياكل وإتباع أساليب تمكنها من الخروج من أزماتها فجاءت الفترة الاستعمارية وأوقفت تلك الحركية.

لقد حدث في بلداننا من أثر خضوعها للاستعمار أن اضطرت إلى الأخذ ببعض أساليب التسيير العصرية، مكان إتباع الأساليب العتيقة التي كانت سائدة من قبل الفترة الاستعمارية. وعرفت بلداننا حركية جلبت أنماطا جديدة في الإدارة والنظم الصحية والأجهزة التربوية والهياكل التحتية من طرق ومرافق وخدمات لم يكن بها عهد من قبل، ولكن كل ذلك لم يكن هو الهدف من وراء فرض الواقع الاستعماري، بل هو من النتائج الجانبية التي أتت بها الفترة الاستعمارية. ومن تلك النتائج الجانبية البارزة والبالغة التأثير، الاحتكاك الذي وقع مع الثقافة الغربية المتمثلة ليس فقط في مفكري الحركة الاستعمارية الذين درسوا المجتمعات المفتوحة تمهيدا للسيطرة عليها، بل متمثلة أيضا في المفكرين الذين كان لهم صوت متميز طيلة المواجهة التي وقعت بين الظاهرة الاستعمارية والشعوب المستعمرة.

فحينما كانت فرنسا بصدد فرض نظام الحماية على المغرب، ناهض الزعيم الاشتراكي جان جوريس، احتلال بلاد المغرب وحذر من مغبته. ولدى الاحتلال العسكري الفرنسي والإسباني على المغرب عارض اليساريون عموما ذلك الاحتلال وقاوموه بشتى الأساليب، وعبروا عن تضامنهم مع المغاربة، رافضين الحجج التي كان الحزب الاستعماري في البلدين يقدمها لتبرير الاحتلال. وأثناء حرب الريف الأولى، قال الزعيم الراديكالي الكاطالوني لوررو، إن من يحارب في المغرب هو الجيش وليس الشعب الإسباني. أي أن الشعب سواء قي فرنسا أو إسبانيا ليس هو الذي كان معنيا بالحركة الاستعمارية بل الحزب الاستعماري.

وطيلة الفترة الاستعمارية كانت هناك أصوات متنوعة انبعثت من فرنسا على الخصوص، لاستنكار الممارسات الاستعمارية. ووصل الأمر بالجماعات اليسارية إلى حد التضحية المادية في مقاومة الاحتلال الذي كان يمارس الشغب. وأخص بالذكر فرنسا، لأن النسق السياسي في هذا البلد سمح في أغلب الأوقات بارتفاع صوت الليبراليين والاشتراكيين والشيوعيين وحتى المسيحيين الديموقراطيين لمناهضة التعسف والاستغلال المسلطين على المغاربة، على عكس إسبانيا التي عرفت نكسات في حياتها السياسية جعلت الحزب الاستعماري هو صاحب الصوت المرتفع والوحيد طيلة حقب طويلة من القرن الماضي. ومن جراء ارتفاع الأصوات المنصفة لشعب المغرب في الميطروبول، والناطقة باسم الثقافة والضمير الفرنسيين، أمكن إنقاذ الحوار المغربي الفرنسي، وبروز مسالك للبحث عن حلول للأزمات التي نشبت في ظل النظام الاستعماري، مما أدى إلى تفاهمات أنقذت الصداقة المغربية الفرنسية، وسهلت التوصل إلى اتفاقات سياسية مقبولة من الطرفين، وهو ما آل في نهاية الأمر إلى صياغة تسوية، وجعل من الممكن تلافي حدوث قطيعة.

حول هذه المضامين دار النقاش في لقاء الرباط فيما بين المغاربة من مختلف المشارب، وبحضور تونسيين وموريتانيين، تمهيدا لنقاش دولي أوسع، ليس بغرض بعث تأزمات الماضي بل لاستكناه الدروس ولترتيب التعايش حاضرا ومستقبلا. وأريد أن أذكر بوجه خاص، أن رغبة المغاربة في فترة النضال الوطني في فتح حوار مع الفرنسيين لم تخب، لأن النسق السياسي الفرنسي سمح بفتح مسالك لذلك الحوار، ولبروز فضائل القيم النبيلة الكامنة في الثقافة الفرنسية. وفي وقت الأزمة استفاد الجانبان المغربي والفرنسي من فضائل الحوار وصولا إلى الإقناع بأن التفاهم ممكن. وتم ذلك على يد ممثلين لتيارات متنوعة، بما فيها، الكنيسة المسيحية. وذلك في ظرف شديد الحساسية، حيث سجل التاريخ أن الأسقف أميدي لوفيفر، قد نبه في بداية الخمسينات من القرن الماضي، حيث وصلت المواجهة إلى أوجها، المسيحيين إلى الحوار مع المسلمين على أساس أن الكنيسة يجب أن تنشغل ليس فقط بالرحمة بل أيضا بالعدل. وفهم المغاربة أن الكنيسة الكاثوليكية ليست جزءا من الجهاز الاستعماري الفرنسي، وأنها تبحث عن دور خاص بها. وهنا قامت مجلة «تيموانياج كريتيان» بفضح مجزرة الدار البيضاء، في الوقت الذي لم تكن فيه للوطنيين جرائد. ولدى نفي الملك محمد الخامس أصبح الركن الأسبوعي للكاتب المسيحي ذائع الصيت فرانسوا مورياك مكرسا للتشهير بالبطش الذي تقوم به السلطات الاستعمارية في المغرب.

وفي فترة حالكة من تطور الأزمة، تصدى رجل ليبرالي ملهم هو لوميغر دوبروي، آمن بعدالة القضية المغربية، وكرس جهوده للبحث عن مخرج للأزمة التي أحدثها نفي محمد الخامس، وعمل على إنقاذ المصالح المشتركة بين فرنسا والمغرب، التي تكمن في التفاهم، إلى أن قام غلاة الاستعماريين باغتياله، عقابا له على تأييده للوطنيين. وتوجد السيارة التي اغتيل وهو على متنها في المتحف الوطني للمقاومة المغربية، تذكيرا بالتضحية التي قدمها، واعتزازا بدوره كشهيد للوطنية المغربية.

ومن جوريس إلى لوفيفر ودوبروي، وجد زعيم اشتراكي عارض فرض الحماية على المغرب، وزعيم ديني غير فكرة المغاربة عن الكنيسة التي جاءت إلى المغرب في ركاب جيش الاحتلال، وزعيم ليبرالي فهم المغاربة من تضحياته التي وصلت حدها الأقصى، أن فرنسا لا تتمثل فقط في جيش الاحتلال وفي الحزب الاستعماري. وفهم المغاربة أن هناك فرنسا الأخرى، الخيرة التي تحركها قيم نبيلة تتمثل في محامين من أمثال شارل لوغران، وبوتان، اللذين طالما ترافعا عن المقاومين المغاربة. وتتمثل في كتاب وصحافيين من أمثال الكومندان سارتو وكلود بوردي وجان دانييل وجان لا كوتور وجان روس وعشرات آخرين، تحملوا بشجاعة عبء الجهر بالحقيقة للرأي العام الفرنسي، متحملين تضحيات جسيمة وهم يواجهون إرهاب الحزب الاستعماري. ومن خلال ذلك سجل التاريخ، أن الاحتكاك بين المغاربة والظاهرة الاستعمارية اكتنفته المواجهة مع نظام استغلالي كله شر، وهو في جوهره سلبي، ولكن كان من نتائجه الجانبية الاحتكاك بقيم ثقافية نبيلة لم تكن في وقت من الأوقات هي الهدف الذي من أجله فرض الاستعمار على بلدنا.