الكرة وحروب الكراهية

TT

حين مازحت أحد موظفي الأمن في المبنى حيث أقيم وهو مصري الجنسية وسألته هل انتهت الأزمة مع الجزائر، امّحت الابتسامة من على وجهه وأطلق مجموعة من الاتهامات خاتما بجدية مطلقة: «لا يمكن، ما فيش حلّ غير قطع العلاقات».

الأمثلة على ما انحدرت إليه الأزمة بين مصر والجزائر تكاد تكون صادمة، فردود الفعل تطورت من سباب وضرب وقذف إلى حد التلويح بقطع العلاقات ووقف الاستثمارات والتعرض لجاليات، بل وسجلت حالات طلاق واستبعاد لاعبين رياضيين من جنسية البلدين والأمر مرشح لمزيد من التدهور.

يبدو أننا سنشهد ونتحدث ونحللّ ونكتب كثيرا بعد عن تداعيات المباراة الرياضية التي تحوّلت إلى فوضى عنفية وأزمة سياسية وحرب إعلامية شعواء بين مصر والجزائر لا يبدو أن فصولها ستنتهي سريعا.

الجميع أدلى بدلوه في هذه «الحرب». سياسيون ورياضيون وفنانون، لكن «نجوم» حفلة الكراهية هذه وأصحاب السطوة في نفث مشاعر البغض فيها كانوا وللأسف من أهل الإعلام والصحافة. انحدر صحافيون وإعلاميون معروفون إلى بذاءة وإسفاف بالغين. فمن تحقير تاريخ الآخر ولغته وهيئته وثقافته إلى هتك كل ما هو مقدس لدى هذا وذاك. اهتاجت المشاعر والعصبيات وليس في الأفق ما يوحي باحتوائها.

للعرب، أنظمة ومجتمعات، باع نافذ في تبادل الاتهامات وبث العصبيات كلاما وفعلا. استذكار سريع فقط للسنوات الأخيرة لما جرى بين سورية ولبنان والعراق والكويت أو لما جرى داخل بعض الدول العربية من احتقان ومشاعر مذهبية وشوفينية وصدامات وقتل متبادل يوحي بكم نحن أرض خصبة إلى الانجرار نحو هيستيريا جماعية ليس أقلّ مظاهرها العنف اللاحق بمباراة كرة قدم.

هناك من يرى وعن حق أن الحقن السافر الذي لعبته فضائيات وصحف، واللغة التحريضية والاستفزازية، جعلت الإعلام يملأ فراغا خلفته سنوات من تراكم الأزمات في المجتمع العربي. تراجع حرية التعبير وتعاظم التهميش والفقر والسياسة جعل من احتقان حول لعبة كرة قدم ساحة سهلة لتظهير غضب مكبوت تفاقم على مدى السنوات.

لا شك أن الإعلام عمل على تظهير أزمات سياسية سابقة وربما أحيانا ضاعف من مفاعليها لكن ضبط الأنظمة المحكم للإعلام والصحافة احتوى الأمر سريعا من دون أن يعالجه أو يبطل أسبابه. كان الاحتواء ليس أكثر من تأجيل للانفجار لا نزعا لفتيله. الأزمة الأخيرة سمحت بتظهير احتقان لكن على قاعدة أزمة رياضية، إلا أن الشعارات حملت مضمونات سياسية خلاصتها الكراهية ورفض الآخر.

ترك العنان للإعلام ليلعب لعبته. مجال إثارة الغرائز هنا يحمل واجهة رياضية وليس سياسية. اعتقد ضابطو إيقاع الاحتقان الرياضي الأخير أننا ما دمنا في الرياضة فلنرخ للغرائز عنانها إذ أن الأمر لا يتعدى أكثر من انفعال جمهور رياضي، ولكن يبدو أن استثمار المشاعر «الوطنية» في الرياضة صار وظيفة الأنظمة لرأب صدوع داخلية فانزلق الإعلام وانزلقت معه مشاعر الكراهية الكامنة.

diana@ asharqalawsat.com

* مقال اسبوعي يتابع قضايا الإعلام