مهمة مستحيلة على الجسر

TT

في روايته «الطربوش» يحكي الكاتب المصري الفرنسي روبير سوليه (الموند) قصة رجل على شيء من الهوس أو الاختلال، له هاجس واحد منذ بداية الثلاثينات: تزايد عدد السكان في مصر بنسبة تبعث فيه الجنون. لذلك يذهب بنفسه لكي يحصي عدد المارة على كوبري قصر النيل، لأنه لا يثق بالإحصاءات الرسمية (وهل هو مجنون لكي يصدق الحكومة؟) يقول روبير سوليه، في كتاب ممتع آخر «قاموس محبة مصر» إنه استحال منذ قرون إحصاء عدد سكان وادي النيل بشيء من الدقة. فالفلاحون، الذين يشكلون أكثرية السكان، يرفضون الإقرار بعدد أولادهم الحقيقي، إما خوفاً من الضرائب أو خوفاً من العين، وقد حاول علماء «البعثة النابوليونية» إجراء مسح علمي في التقرير الذي وضعوه بعنوان «وصف بلاد مصر»، فتبين لهم أن العدد هو 2.5 مليون، لكن العدد الحقيقي كان يومها على الأرجح نحو 4 ملايين نسمة. وقد ظل الرقم مستقراً تقريباً بسبب المجاعات والأوبئة التي حالت دون زيادة السكان. لكن في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ومع ظهور حملات التلقيح، تغير الاتجاه تماماً. وحوالي العام 1900 كان عدد السكان حوالي عشرة ملايين ونحو 18 مليوناً في 1947 و22 مليوناً في 1954 وأكثر من 70 مليوناً العام 2001 ويتوقع أن يبلغ العدد 123 مليوناً للعام 2029، يعيش معظمهم في الدلتا التي لا تشكل سوى 50% من مساحة مصر.

من صاحب الفائدة الكبرى في هذه الولادات؟ القابلة القانونية، أو «الداية». وتجنبا لحالات الوفيات والأمراض شنت الأونيسكو حملة لتدريب الدايات وإعطائهن شهادة رسمية بعد دورة لا تزيد على عشرة أيام. لكن هذا الاعتراف بهن شجعهن على الاتصال، عند الحاجة، بالأطباء أو اللجوء إلى الأدوية المعترف بها. وتتقاضى الداية غالباً أجرها من موسم الأرز. ويرتفع الأجر إذا كان المولود صبياً.

هذه هي مصر وعاداتها وطقوسها. وأكثره متحدر منذ أيام الفراعنة برغم وصول الإسلام العام 640م. وقد غيرت مصر علمها وألوانه مرات عدة (ناصر الأنصاري) لكنها غيرت القليل من طقوسها وعاداتها: رفعت العلم الأبيض مع الأمويين والعلم الأسود مع العباسيين والأخضر مع الفاطميين وعادت إلى الأسود مع الأيوبيين ثم الأصفر مع المماليك. إلى آخره.

لكن العادات لم تتغير. ويتذكر نجيب محفوظ بحرارة تمضية عطلة الأسبوع في المدافن كما في أيام الفراعنة: «كانت الأيام التي نذهب فيها لزيارة الموتى أكثر أيامي فرحاً. وعشية الزيارة كنا نعد الحلوى والتمور التي نحملها معنا. وكنا نفيق باكراً في الصباح وأسير بين أمي وأبي حاملا النخيل والحبق تسبقنا الخادمة حاملة سلة خبز الرحمة. ومن بعيد كنت أعرف مدفن العائلة كما أعرف صديقاً قديماً».

أعتذر أنني ترجمت هذه الفقرة عن الفرنسية، وبالتالي فهي ليست نص مندوب العرب إلى «نوبل» ومدوِّن يوميات مصر وأفراحها وآلامها وثرثرة حرافيشها على النيل. ودون انقطاع، حاول كتاب مصر، إحصاء تزايد السكان. أحيانا، مثل بطل «الطربوش»، بالوقوف عند كوبري قصر النيل.