تراث قبيح

TT

بسبب شحة الماء والغذاء في الجزيرة العربية عاش سكانها لقرون، بل وألوف من السنين على السطو والنهب والسلب حتى ظهور الإسلام. وترتب على ذلك النمط من العيش قيم وتقاليد كبيرة آنذاك. سمعنا عن عنترة العبسي بأن عمه طلب منه أن يسطو على القبائل الأخرى ويأتي بالغنائم ليعطيه ابنته. كلنا معجبون بعنتر. لم أجد في أي كتاب ما يذكر أنه كان مجرد حرامي ومعتد أثيم.

في العهد العباسي، أصبح الحرامية والنصابون يشكلون شريحة كبيرة تعرف بالشطار وخلد تاريخهم في كتاب الشطار والعيارين وسواه. ورحنا نشير لكل من يظهر ذكاء ومقدرة بأنه «شاطر» وعظيم الشطارة. أشار أحد أصحابي باعتزاز وإعجاب لموظف مرتش بأنه من الشطار. والمعتاد عندنا في العراق أن يحطوا من قيمة الرجل فيقولون شنو هو؟ لا زراع ولا ملاك ولا حواف (حرامي)؟!

تذكر الخطابة لأهل العروس بأن الرجل موظف في الضريبة، راتبه كذا دينار ولكنه يكسب «عالبراني» أضعاف ذلك. فيعطونه ابنتهم دون أن يجدوا أي عيب في الأمر. تزوج ابن عم لي بامرأة ما لبثت بعد أشهر أن أخذت تعض على أصابعها ندما وتقول يا خيبتي! كنت أتصوره كمدير شرطة عنده ثروة كبيرة جمعها عالبراني، لكن اكتشفت بعدين ما يملك غير راتبه. يا حظي الأسود!

نسمع باستمرار عمن قاموا بسرقات فاضحة ومعروفة وفتحت تحقيقات مع بعضهم وصدرت أحكام ضدهم أو أوامر قبض عليهم. يختفون لأشهر قليلة ثم نراهم على التلفزيون يتكلمون عن الوطنية ومحاربة الفساد. تسرع الصحف لنشر تصريحاتهم ومقالاتهم. أشهر أخرى وتدعوهم إحدى الجامعات لتدريس القانون والعلوم السياسية للطلاب. بدلا من نبذهم ومقاطعتهم، يبادر ذووهم وأصحابهم للتوسط لهم بدون أي خجل وحرج فتعيدهم الدولة لمناصب أعلى مما كانوا فيه. ويخف الناس لمباركتهم. «والله يا أستاذ هذا بلدنا. ما يقدر رجاله المخلصين. هذا سر تأخرنا. الحمد لله تذكروك في الأخير».

هناك مرتشون وفاسدون ومختلسون في كل الدول. ولكن المعتاد في الدول الواعية، أن يختفي مثل هؤلاء القوم عن الأنظار حالما ينفضح أمرهم. يكفر بعضهم عن سيئاته بالتوجه لأعمال الخير. ولكن الموضوع عندنا له شأن آخر. أنا أفهم أن المقصر لا يشعر بالذنب. ولكن ما يحيرني هو أن الآخرين أيضا لا يشعرون بأي عيب فيه. إنه واحد من الشطار. نشجب الفساد ولكننا نسكت عن الفاسدين ونعطيهم المزيد من الفرص ليوغلوا في الفساد.

لا أدري كيف يمكننا أن نقلب هذه المفاهيم. إنها تراث ألوف السنين. السرقة شطارة. ومن يترك الوظيفة وهو لا يملك غير راتبه التقاعدي مسكين ساذج. ما عرف كيف يستفيد من وظيفته.