صدَمات ذوي القربى.. وأحدثها «الرعب الكروي»

TT

فجأة وبينما الأمة مهمومة بحالات من الصراعات والخلافات العالقة جاءت الحالة المصرية ـ الجزائرية تضيف نفسها كموضوع له صفة الجرح العميق وليس بالأمر السهل احتواء تداعياته.

ومن حيث الأهمية والتسلسل كانت الهموم والاهتمامات تتمحور حول استمرار النزاع الذي لا مبرر له ولا جدوى منه للقضية وللشعب بين «فلسطين الشرعية العربية والدولية» المتمثلة في شخص الرئيس محمود عباس ومَن حوله وخلفه وبين «فلسطين المكتفية بالشرعية الإيرانية» المتمثلة في شخص القائد المغترب خالد مشعل والقائد المقيم في غزة إسماعيل هنية. وبسبب استمرار هذا النزاع ضاعت فرص كثيرة على الشعب الفلسطيني الذي توالت الصدَمات عليه من عدوه ثم من أصدقاء عدوه. لكن الصدمة الأشد مرارة كانت صدمة بني القوم عليه، لمجرد خروج حماس على اتفاق مكة الذي أعطاه الملك عبد الله بن عبد العزيز من الوقت ومن الرعاية ما يتناسب واقتناعه بأن كل الصعاب يمكن تذليلها في إطار الحوار والنوايا الطيبة. ولذا فإنه بعدما خرجت حماس على الاتفاق مع أن قطبيها «أبو الوليد» و«أبو العبد» أقسما أغلظ الأيمان بأنهما على العهد سائران وبالوعد ملتزمان، ازداد أسى على بضعة ملايين فلسطيني موزعين بين غزة وبلدات الضفة وداخل المدن الفلسطينية المحتلة بين أعالي الجليل وتلال القدس مرورا بشواطئ المتوسط، وعلى بضعة ألوف منتشرين في دول العالم ومئات قابعين في سجون إسرائيل النازية الأسلوب وعلى عشرات الألوف الصابرين على الضيم وهم في مخيمات العيش المذل في لبنان والأردن وسورية وفي الخيام المنصوبة على الحدود بين العراق والأردن بعد فرارهم وإبعادهم من الكويت التي حررها بوش الأب من الغزوة الصدَّامية.

وفي الوقت الذي كانت الصدمة الناشئة عن استمرار النزاع الفلسطيني ـ الفلسطيني تأخذ مكانها الرحب في «أجندة الصدمات» وتتضاءل فُرَص التسوية التي كان من المحتمل إنجازها في ظل وحدة صف وهدف فلسطينية، جاءت الأزمة الحكومية في لبنان تشكل صدمة تترك انطباعا بأن رموز العمل السياسي والحركي والحزبي في لبنان معنيون بمصالحهم وبذوي القربى ولا يعنيهم الوطن ومفهوم المواطَنة المستقيمة في شيء. وعندما يطول أمد الأزمة وتستغرق ستة أشهر لتنتهي بتشكيل «حكومة وحدة وطنية» شكلا مع أنها ليست أكثر من «حكومة الصبر الجميل» التي تقوم على توزيع غنائم ونصْب كمائن سياسية وتصفية حسابات ضيقة، ولا يتم التشكيل إلا بعد تحفيز سعودي ـ سوري لها، فهذا يعني أن الطرفين اللذين أديا مهمة التحفيز سيستمران مشغولي البال على أداء هذه الحكومة وهل أنها ستمارس الواجب المنوط بها على طريقة المبارزة الكروية بين مصر والجزائر أم ستكون بالفعل كما سائر نظيراتها الحكومات العربية وغير العربية تؤدي دورها في تسيير أمور الناس ومصالح الشعب وتحقيق الاستقرار فلا يدعى مسؤول عسكري مرؤوس من رئيسه إلى اجتماع لكنه لا يحضر لأن مرجعيته غير الرسمية أهم من صلاحية رئيسه. ثم لا ينتهي الأمر عند عدم الحضور وإنما ينتصر لهذا المسؤول زملاء له في المجلس الذي يضمهم مع آخرين. وإزاء ذلك يقرر الرئيس المساير لتيار سياسي يناصب التوتر للتيار الذي ينتمي إليه المرؤوس إنزال العقوبة المسلكية في هذا الأخير. وعندما يحدث ذلك ينتفض وزير الداخلية الذي هو مرجع الرئيس والمرؤوس ويقاطع اجتماع الحكومة ولا يعود إلا بعد مراضاة خاطره. هل يحدث هذا التهريج في أي بلد عربي غير لبنان؟ لا ونعم. لا لأن لا مجال أمام العسكري المرؤوس أن يرفض ما يطلبه الرئيس لأن ذلك نوع من التمرد يحاسَب عليه. ونعم لأن التهريج اللبناني المشار إليه تزامن مع تهريج يمني تبعه تهريج مصري ـ جزائري ولكل من التهريجين صفاته.

كان التهريج اليمني في البداية عبارة عن مناوشات بين نظام مستأثر أقسم رئيسه (أبو أحمد) كما فعل الحماسيان «أبو الوليد» و«أبو العبد» (وكل في اتجاه مختلف) بأنه سئم تكاليف الرئاسة ثم قال إن حزبه فرض عليه التجديد فعاد عن القرار الذي صاغه بالأسلوب الحاسم وأعلن فيه أنه لن يجدد، وبين جماعة من الواضح أن وريث زعامتها يريد حصة دسمة من كعكة السلطة. ومِن هذه النقطة حدث التسلل الأول من جانب دولة التصدير الثوري (الجمهورية الإسلامية في إيران) شحنا مذهبيا وسلاحا ومالا وتدريبا ليتلوه التسلل الثاني إلى الأرض السعودية، وهو الهدف الرئيسي موضوعا فيما مشاكسة النظام في اليمن هي من باب الشكل والذريعة والغطاء المثقوب. وعندما يكون المتسللون يمنيين وصوماليين وربما من جنسيات أخرى ويكون هؤلاء مدربين وانتحاريين ويأتون إلى الأرض السعودية برا وبحرا متنكرين عند الضرورة متذرعين بأنهم هاربون من جحيم الحرب بين القوات اليمنية والجماعات الحوثية، فهذا يعني أن هنالك مخططا بالغ الخطورة يستهدف إشغال آخر القلاع العربية في وجه التبعثر والتطبيع العشوائي، وبانشغال هذه القلعة المحروسة من الملك عبد الله بن عبد العزيز الساهر على بواباتها كي لا يخترقها ماكر أو عابث لا تعود الأمة قادرة على الوقوف بثبات أمام اللاهثين من أجل تقويضها. كما أن إطلاق رصاصة البدء بالمخطط تمت بعد أن كسر عبد الله بن عبد العزيز حاجز العتب والتحفظات على إخوان وأبناء وأصدقاء في الأمة. ونجد أنفسنا هنا نميل إلى الاعتقاد بأن التسلل الحوثي الإيراني الإيعاز والدعم هو واحد من الردود الأولية الممكنة على المصالحة السعودية ـ السورية التي تبعث الخشية في النفس الإيرانية الأمَّارة بالطموحات المستعصية من أن تصبح من دون سند عربي رسمي ينعكس بالتدرج على الأعماق العربية غير الرسمية مثل حزب الله الذي تجددت قيادته تلقائيا وحركة حماس التي تراوح مكانها فضلا عن بعض المنصات السياسية في دولة خليجية أظهرت في موضوع التسلل الحوثي إلى المملكة العربية السعودية أنها تعاني فقرا في الولاء للوطن وهو، أي الفقر، من نوع فقر الدم الذي في حال أصاب إنسانا يُفقده القدرة على الرؤية المتوازنة للأمور.

وإذا جاز للمرء مثل حالي الافتراض، فإن الألم الذي يعتصر في نفس عبد الله بن عبد العزيز مما يفعله اليمني العربي الحوثي وكيف يضطر شقيقه السعودي إلى ردعه، حتى إذا تطلَّب الأمر سفك دم، لا يوازيه ألم. وهذا طبْع القائد الذي يؤمن بالتسامح ويرى أن يسود بين أبناء الأمة من أقصى المحيط إلى أقصى الخليج، ويتمنى لو أن كل رصاصة انطلقت لا تريق دم إنسان عربي وتبقى برسم الإطلاق عندما يدعو الواجب كل أبناء الأمة حكاما ومحكومين إلى كلمة سواء يعقبها فرْض إرادة الموقف الواحد على العدو الغاصب أو الأخ المسلم الذي يستعذب تفريق الشمل وزرْع الشقاق في جسم الأمة.

وعندما نتأمل في الذي جرى بين مصر الأم والجزائر الابنة وكيف أن الأُولى وبسبب واقعة كروية فقدت حنانها كأم وأن الثانية فقدت شعور الرحمة كابنة، فإن القلب ليحزن والعين لتدمع والصبر على هذا الضيم لينفد. فهذه صدمة ولا بقية الصدمات، إذ كيف يجوز أن تحدث «حرب متعب وعنتر» بين مصر أم الدنيا وجزائر المليون ونصف المليون شهيد؟ مع ملاحظة أن شلال الدم الجزائري الاستشهادي كان سيتواصل بضع سنوات أخرى لولا وقفة مصر عبد الناصر مع ثورة الجزائر وإيقاظه حالة نهوض عربي من أجل هذه الثورة، لا يفقهها هؤلاء الذين وفدوا بالألوف من الجزائر مشحونين بالغضب والثأر ولم يسارع الواحد منهم إلى شراء تذكار من العظم أو الأبنوس أو العاج أو جلد التمساح أو «الأصَلَة» يهديه إلى والده أو والدته أو زوجته أو حبيبته، وإنما كل الذي أرادوه من أسواق الخرطوم الأدوات الجارحة من مطاوي وسكاكين وخناجر لإيذاء من تصل إليهم أياديهم من إخوانهم المشجعين المصريين لمنتخبَهم الذي جاء هو الآخر مشحونا بتدعيمات إعلامية وحزبية تفتقد إلى التروي وتلتقي في ذلك مع تدعيمات إعلامية وحزبية جزائرية للمنتخَب المبارز الذي اعتبر عدم فوزه في مباراة «استاد القاهرة» يوم السبت 14 نوفمبر بأنه هزيمة نداء متساويا في ذلك مع التصوير الإعلامي المصري أرضيا وفضائيا وورقيا بأن الفوز الذي تحقق بالأقدام المصرية هو نوع من المعجزة والهزيمة النكراء يتم إلحاقها بالأخ الجزائري. وعندما نقول ذلك فلأن العبارات التي سمعناها وقرأناها ومعها اللقطات الهستيرية التي شاهدناها تحدث في القاهرة أولا ثم في الجزائر وبعدها في الخرطوم ثم في القاهرة ثانية وفي الجزائر وصولا إلى فرنسا، لم تكن صادرة عن عقلاء، إلاَّ إذا كان هؤلاء بتصوير فوز «الفراعنة»، وهي تسمية استفزازية، على الجزائر في مباراة «استاد القاهرة» يوم الأربعاء 14 نوفمبر كان العبور الثاني في تاريخ مصر بعد عبور القناة صبيحة السادس من أكتوبر 1973 ويستحق هذا الاستنفار لنظْم وتلحين وغناء طقاطيق ما أبعدها من حيث الرقي عن أغاني وأناشيد راقية وهادفة مثل «صُبرنا وعبرنا» و«الله أكبر» و«قلنا حنبني وادي احنا بنينا السد العالي» وأن فوز «صناديد الصحراء» الجزائريين في مباراة «ملعب المريخ» في أم درمان هو الجزء المتبقي من ثورة الجزائر، على الاستعمار الفرنسي.

تبقى استكمالا لصدمة «الرعب الكروي» ثلاث ملاحظات: الأولى هي أن السودان مهيأ عاطفة وحماسة لاستضافة المباراة التي تمت إلا أنه غير مهيأ لاستيعاب واستضافة اجتياح كروي من الجزائر وآخر من مصر خصوصا أن أم درمان ما زالت تعيش مرارة ذكريات اجتياحين مماثلين، الاجتياح الجنوبي والاجتياح الدارفوري. وكرم الضيافة من الرئيس عمر البشير وفق قاعدة «أخو أخوان» ليس بتجاوز مسألة التأشيرة المسبقة وإنما بالاستفسار أولا عن عدد المسفّرين مجانا أو بأسعار تشجيعية من الجزائر ومصر إلى السودان عبر جسور جوية بلغت 67 طائرة من الجزائر و32 طائرة من مصر مع ملاحظة أن الجسور الجوية تكون في ظروف مساندة بلد شقيق يتعرض للعدوان أو زلزال مدمر. أما أن يحدث هذا الاجتياح الجوي بغرض التشجيع ومِن دولتين مكتويتين بالفقر مثل مصر والجزائر فهذا لا يعود تشجيعا وإنما لمآرب أخرى مثل عصا موسى. وفي هذه المآرب تلتقي الأنظمة الثلاثة مصر والجزائر والسودان الذي كان عليه أن يعتذر بلباقة السوداني في الاعتذار.

الملاحظة الثانية: أن الحكومات الثلاث المصرية والجزائرية والسودانية تتحمل مسؤولية ما حدث. أما المطلوب بعد الذي حدث فهو مباراة حبية بين المنتخبين في بيروت أو أبو ظبي العاصمتين العزيزتين على الرئيس حسني مبارك والرئيس عبد العزيز بوتفليقة وبحضور الرئيسين والرئيس المستضيف سواء كان الرئيس الشيخ خليفة بن زايد أو الرئيس ميشال سليمان.

الملاحظة الثالثة: لقد عاشت القاهرة ذات يوم في زمن الرئيس أنور السادات انتفاضة شعبية أمعنت تخريبا وأذى وسمَّاها الرئيس الراحل «انتفاضة الحرامية». وعاشت الجزائر صولات وجولات ساطورية مخزية. وفي الحالتين كانت الأمور داخلية وأكثر خطورة من «الرعب الكروي» الذي انتهى إليه الأمر بين مصر والجزائر.

وخلاصة القول في ضوء ذلك أنه بات لا بد من ترصين لبعض حملة الأقلام للكتابة ولأصحاب الإطلالات على الفضائيات وترشيد لظاهرة لعبة كرة القدم كي لا تنتهي العلاقات متوترة تحت وطأة سلوك مشجعين، وضعوا الأمة في وضع التأسيس لـ«داحس وغبراء» من نوع جديد يتمثل في «حرب متعب المصري وعنتر الجزائري».

ونختم بالدعاء: اللهم نجِّنا من المزيد من صدَمات ذوي القربى. واللهم اشرح قلوب بعض إخواننا المصريين والجزائريين أصحاب آخر الصدمات التي نتمنى أن تكون أخيرها ويسِّر أمر اعتمادهم التعقل والصبر بدل الجنون والتهريج عندما يشاهدون مباراة بين منتخَب ومنتخَب. ألا تكفينا فوضى الفتاوى لكي تنضم إليها فوضى التشجيع الكروي.. بالاجتياح.