هوبير فيدرين ومستقبل العالم

TT

كان هوبير فيدرين وزيرا لخارجية فرنسا لمدة خمس سنوات متتالية. وهو يعتبر أحد أفضل الخبراء في الشؤون الاستراتيجية والعلاقات الدولية. إنه نوع من بيرزنسكي فرنسي. إنه شغوف في كل محاضراته وكتبه في استكشاف مسيرة العالم والقوى العظمى فيه وتطاحناتها وصراعاتها وموازين القوى المتأرجحة أو المتغيرة باستمرار. وفي كتابه الأخير الصادر في العاصمة الفرنسية تحت عنوان شبه شاعري: زمن الأوهام، نلاحظ أنه يقدم لنا صورة عن خارطة العالم السياسية متنبئا بقدر الإمكان بما سيحصل مستقبلا. ونفهم منه أولا أن المستقبل سيكون للقوتين الأعظم: الصين والهند. ولكن ليس المستقبل القريب وإنما المتوسط أو حتى البعيد نسبيا. وذلك لأن الولايات المتحدة الأميركية، شئنا أم أبينا، ستظل القوة الأعظم لفترة طويلة، وهي قوة لم يشهد لها التاريخ مثيلا في مثل هذه العظمة والجبروت. لماذا ستظل أميركا القوة الأعظم طيلة ربع القرن القادم وربما أكثر؟ لأنها تجمع في شخصها ثلاث صفات لا تجتمع في أي قوة عظمى أخرى حتى الآن. إنها تجمع بين القوة الضاربة أو الخشنة المتمثلة بالجيش الأميركي من جهة، والدولار من جهة أخرى، وبين القوة الناعمة المتمثلة بالثقافة الشعبية والسينما الرائجة عالميا والجامعات الكبرى التي لا نظير لها، وبين السلطة الأنيقة التي تعرف كيف تزاوج بكل ذكاء بين القوتين السابقتين.

بالطبع السلطة الأنيقة كانت مفقودة في عهد بوش ولكنها عادت الآن مع أوباما. أما الصين المنافس المحتمل الوحيد لأميركا فإنها تمتلك السلطة الخشنة ولكن تنقصها السلطة الناعمة: أي الإشعاع اللغوي والثقافي والحضاري عموما. بل وحتى فيما يخص السلطة الخشنة فإن اقتصادها على الرغم من انطلاقته المدهشة في السنوات الأخيرة لا يزال متخلفا عن الاقتصاد الأميركي. وقوتها العسكرية الضاربة على الرغم من أهميتها لا يمكن أن تقارن بالقوة الضاربة للأميركان: على الأقل حتى الآن. الصين تبني نفسها تدريجيا وبهدوء ودون ضجيج ولن تواجه أميركا إلا بعد أن تكون قد استكملت استعداداتها جيدا ووثقت من نفسها. إنها على عكس العرب: أسمع جعجعة ولا أرى طحنا. الصين لا تتحدى أميركا ولا تطلق تصريحات عنترية فارغة قبل أن تكمل بناءها الداخلي وتصبح واثقة من النصر إذا ما حصلت المواجهة يوما ما. وهذه هي استراتيجية الناس الأذكياء الذين يفضلون العمل في الظل على الكلام والثرثرات الفارغة. وربما كانت عودتها إلى نبيها الكبير كونفشيوس مؤخرا بعد أفول نجم ماوتسي تونغ وثورته الثقافية الهذيانية ليست غريبة عن هذه التطورات الإيجابية التي تشهدها الصين. أخيرا انتصر كونفشيوس على ماوتسي تونغ وانتقم منه شر انتقام! لقد أراد الزعيم الشيوعي استئصاله من قلوب الصينيين وعقولهم ولكن عبثا. فالشعب الصيني عاد إلى حكيمه القديم الذي ولد وعاش قبل المسيح بخمسة قرون وقبل نبينا محمد باثني عشر قرنا. وذلك لأن القيم القديمة الراسخة مهما كسفت من قبل الأيديولوجيات السريعة والمراهقات الفكرية لا تموت. نقول ذلك وبخاصة إذا كانت مفعمة بالحس الأخلاقي والطيبة الإنسانية والعدالة الاجتماعية والتعاطف مع الفقراء والمظلومين لا مع الأقوياء والأغنياء والمتبجحين. فأما اليتيم فلا تقهر. وأما السائل فلا تنهر. وأما بنعمة ربك فحدث. أو: من يعمل مثقال ذرة خيرا يره. ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره. هناك قيم خالدة لا تموت لأنها نازلة من فوق. وهي موجودة عند كبار الأنبياء والحكماء: من كونفشيوس، إلى بوذا، إلى سقراط، فالمسيح، فمحمد.. بل وحتى فلاسفة الحداثة يركزون عليها: من روسو، إلى كانط، الخ.. على هذا المستوى العميق لا يوجد أي تناقض بين الدين والفلسفة أو بين الأصالة والمعاصرة. إنه صراع مفتعل. متى سنكتشف تراثنا بشكل صحيح كما يكتشف الصينيون الآن تراثهم ويستمدون منه القوة النفسية الانطلاقية والعون؟ متى ننفض عنه الغبار فنأخذ منه الجوهر اللباب ونترك القشور؟

لكن لنعد إلى هوبير فيدرين ولنطرح معه هذا السؤال: وماذا عن أوروبا؟ أين مكانتها على خارطة القوى العالمية التي ستتحكم بنا في المرحلة القادمة ولسنوات طويلة؟ أوباما يقول بأن العلاقات بين أميركا والصين هي التي ستصوغ وجه القرن الحادي والعشرين. ولكن هل يعني ذلك ازدراء الاتحاد الأوروبي المؤلف من سبع وعشرين دولة ونصف مليار شخص وأغنى اقتصاد في العالم وأعرق فضاء حضاري؟ في رأيه أن أوروبا تنقصها الطاقة الذهنية أو الجرأة العقلية والسياسية. فهي تخلت عن تزويد نفسها بالقوة الضاربة واعتمدت على الأميركان لكي يدافعوا عنها وقت الخطر. وهكذا تحول الاتحاد الأوروبي إلى نوع من سويسرا ضخمة، ناعمة، مترفة، ولكن بدون قوة عسكرية ضاربة. ولذلك فسوف يطمع بها الطامعون. لقد آن الأوان لكي تستيقظ أوروبا وتشكل قوة مرهوبة الجانب تقف في وجه الصين وروسيا بل وحتى الولايات المتحدة الأميركية. وينبغي على باريس وبرلين ولندن أن تقرع ناقوس الخطر وتجمع حولها كل الشعوب الأوروبية وتشكل القوة الضخمة المرتجاة وإلا فلا مكانة لها على خارطة العالم المقبل. درس للعرب، فهل يسمعونه؟ أم لا سميع لمن تنادي؟